الأربعاء، 28 مارس 2012

بمناسبة يوم الارض لفلسطين حبيبتنا نعيد نشر ما يجب الاننساه


كنت في السادسة من عمري عندما رحلت نحو ما لم أكن أعرف. في ذلك اليوم، إنتصر جيش عصري على طفولة لم تكن تعرف من الغرب بعد إلا عطر البحر المالح وذهب الغروب فوق حقول القمح. دافعنا وقتها عن العلاقة الهادئة السرمدية التي تربط الفلاحين الطيبين بالأرض الوحيدة التي عرفوها، الأرض التي ولدوا عليها
لم تتحول السكك والمحاريث إلى سيوف إلا في قصص الأنبياء. أما سككنا نحن فتكسّرت أمام طائرات ودبابات الغرباء الذين شرّعوا بهذه الطريقة حكاية حنينهم الطويل إلى “أرض الميعاد”. لقد تغذّى الكتاب على القوة وكانت القوة بحاجة إلى كتاب
منذ اليوم الأول رافق الصراع من أجل الأرض غزو للماضي وللرموز. ولبست صورة داود درع جليات، وأمسكت صورة جليات بنقّيفة (مقلاع) داود. ولكن الطفل الذي كنته لم يكن بحاجة إلى من يقص عليه التاريخ كي يعرف طريق الأقدار المجهولة التي دشنت هذه الليلة الرحبة الممتدة بين قرية جليلية وشمال مضاء بقمر بدوي معلق فوق الجبال.
في هذا اليوم، اقتُلع شعب من حاضره الحميم، وفُصل بينه وبين خبزه الطازج كي يتردّى في ماضٍ آت. هناك، في جنوب لبنان، نُصبت لنا خيم هشّة وتغيرت أسماؤنا. ختمونا بنفس الختم فأضعنا تمايزنا وأصبحنا كلنا “لاجئين”
- ما هو اللاجيء يا أبي؟
- لا شيء، لا شيء، لن تفهم …
- ماذا يعني أن تكون لاجئاً يا جدي؟ أريد أن أعرف …
- أن تكون لاجئاً يعني أن لا تكون طفلاً من الآن فصاعداً …
لم أعد طفلاً منذ قليل. منذ أن استطعت تمييز الحقيقة من الحلم، ومنذ أن قدرت على التفريق بين ما يحدث وبين ما حدث منذ سويعات. هل يتحطم الوقت مثل الزجاج ؟
لم أعد طفلاً منذ أن عرفت بأن مخيمات اللاجئين في لبنان هي الحقيقة وأن فلسطين، من الآن فصاعداً، سوف تسكن الحلم.
لم أعد طفلاً منذ أن جرحني ناي الحنين، منذ أن كان القمر يكبر فوق أغصان الشجر وأنا تسكنني رسائل العتمة؛ رسائل إلى البيت المربع وشجرة التوت العالية والحصان العصبي والحمام البري والآبار … رسائل إلى خلايا النحل التي كان عسلها يجرحني إلى دربي العشب اللذين يقودان إلى المدرسة وإلى الكنيسة…
- هل وضعنا هذا سوف يطول يا جدي ؟
لم أتعلم كلمة “منفى” إلا عندما صارت مرادفاتي أكثر ثراء، فكلمة العودة هي الخبز اليومي للغتنا؛ عودة إلى المكان، عودة إلى الزمان، عودة من المتنقل المتحرك إلى الثابت، وعودة من الحاضر إلى الماضي والمستقبل في آن. عودة من الاستثناء إلى القاعدة، من خلية في سجن إلى بيت من حجر. هكذا أصبحت فلسطين كل ما لم تكن؛ فردوساً مفتوحاً حتى ذلك اليوم الذي تسللنا فيه إلى داخلها من جديد.
يومذاك وجدنا بأن البلدوزارات الإسرائيلية كانت قد محت آثارنا فلم نعثر على أي شيء من ماضينا. حضورنا أصبح منذها جزءاً من آثار الرومان. حرمت علينا الزيارة واكتشف الطفل “أدوات الغياب العتيدة” وطريقاً مشرعاً نحو الجحيم، فهذا كل ما بقي من فردوسه المفقود.
……………………….
لم تكن بي حاجة لأن يقصّوا علي تاريخي.
لقد عادت المخرجة “سيمون بيطون” إلى مسقط رأسي بعد 50 سنة كي تصوّر بئري الأولى وأول روافد لغتي، فاصطدمت برفض القاطنين الجدد للمكان وسجلت هذا الحوار مع المسؤول عن المستعمرة الإسرائيلية:
- هنا ولد الشاعر …
- وأنا أيضاً ولدت هنا … عندما جاء أبي إلى هنا لم يجد إلا الأنقاض. أقمنا أولاً في الخيام ثم في بيوت حقيرة. لقد عملت طيلة عشرين سنة قبل أن أستطيع بناء هذا المنزل. فهل تريدينني أن أعطيه له؟
- أريد أن أصوّر الأنقاض فقط، ما تبقى من بيته. إنه بعمر أبيك، أولا تخجل من أن ترد هكذا ؟
- لا تكوني ساذجة. إنه يطالب بحق العودة.
- هل تخاف من أن يحصل على حق العودة ؟
- نعم …
- ويطردك كما طردته؟
- أنا لم أطرد أحداً … لقد أتو بنا في سيارات نقل كبيرة ثم أنزلونا هنا وتركونا لأنفسنا.
- ولكن من هو هذا “الدرويش”؟
- رجل يكتب حول هذا المكان… حول التينات البرية هذه … حول هذه الأشجار وهذه البئر.
- أي بئر؟
- هناك 8 آبار في البلدة … كم كان عمره ؟
- 6 سنوات …
- والكنيسة، هل كتب عن الكنيسة ؟ …. كان هنا كنيسة ولكنها دمرت. وحدها المدرسة تركوها كي تأوي إليها الأبقار والعجول.
- حولتم المدرسة إسطبلاً ؟
- ولم لا؟
- صحيح، بعد كل ما جرى، لم لا ؟!!! … كان لديهم حصان أيضاً ، ولكن … هل أشجار الفاكهة ما زالت هنا؟
- طبعاً … عندما كنا صغاراً كنا نأكل من ثمارها … تيناً وتوتاً وكل ما خلق الله .. هذه الأشجار هي طفولتي!!!
- وطفولته هو أيضاً …
هذه الأرض لم تكن صحراء إذاًَ، ولم تكن خالية من السكان. هناك طفل يولد في مهد طفل آخر. يشرب حليبه، يأكل توته وتينه، ويعيش مكانه مرتعداً من عودته دون ندم يذكر، ثم يقول لنفسه بأن هذه الجرائم التي ارتكبها الآخرون هي أيضاً من صنع القضاء والقدر. هل يستطيع مكان واحد أن يتسع لحياة مشتركة؟ هل يستطيع حلمان أن يتحركا بحرية تحت نفس السماء؟ هل يستطيعان ذلك دون أن يكون على الطفل الأول أن يكبر بعيداً وحيداً محروماً من الوطن والمنفى لأنه عندما لا يكون هنا فهو ليس هناك أيضاً ؟
مات جدي كمداً وهو يرى الآخرين يعيشون حياته. مات وهو يتأمل الأرض التي سقاها يوماً دموع جسده وهو ينتوي أن يخلفها لأولاده من بعده. رائحة الجغرافيا المهشمة فوق حطام الزمان قتلته، فحق العودة من رصيف على شارع إلى رصيف على شارع آخر يقتضي ألفي سنة من الغياب؛ هذا هو الشرط كي تنتسب الأسطورة إلى الحداثة.
بالنسبة لي، سعيت نحو التآخي بين الشعوب، عبر حوار مفتوح في غرفة السجن مع سجّان لا يتخلى عن قناعته بغيابي.
- من تحرس إذاً ؟
- نفسي القلقة.
- ما الذي يقلقك أيها السيد الطيب ؟
- شبح يطاردني ويصبح أكثر حضوراً في كل مرة أنتصر بها عليه.
- لا شك بأن الشبح هو آثار الضحية على الأرض.
- ليس هناك من ضحايا غيري، أنا هو الضحية.
- ولكنك القوي القادر والسجّان. لماذا إذاً تنازع الضحية المكان؟
- كي أبرّر أفعالي … كي أكون على حق دائماً. كي أصل مرتبة القداسة وكي أفرّ من النوم.
- لماذا تسجنني إذاً ؟ هل تظن بانني الشبح ؟
- ليس بالضبط، ولكنك تحمل اسمه …
لعل الشعر مثل الحلم، لا يكذب ولكنه لا يقول الحقيقة. لعل الشعر، هذا الجنون الذي يشير إلى العناصر الأولية، ليس إلا ذاكرة الأسماء. لعله ليس لعبة بريئة إلا للذي يضع وجوده في المتراس خلف المكان المصادر والذاكرة المصادرة والتاريخ والأسطورة. لا، الشعر ليس لعبة بريئة لأنه يدل على كائن يجب ألا يكون موجوداً، ولكن المنفى يكبر أيضاً مثل الأعشاب البرية في ظل أشجار الزيتون. على العصفور إذاً أن يحقق اللقاء بين السماء البعيدة وأرض طردت منها فضائلها السماوية. نادرة هي البقاع التي تتمتع بوفر في الجمال كذلك الذي تبوح به أرضنا، أرضنا غير القادرة على إحداث القطيعة الضرورية بين الحقيقة والأسطورة. ليس من حجر هنا، ليس من شجرة لا تحكي تاريخ المواجهة بين المكان والزمن، وإحساسي بعدم رسوخ قدم الغريب يتزايد كلما تزايد الجمال ورسخت قدمه وكنت أنا الحاضر والغائب؛ نصف مواطن ولاجيء كامل.
أبذر شوارع حيفا على خاصرة الكرمل بين الأرض والبحر وأتشوق لحرية لا تتيحها لي سوى القصيدة التي سوف يسجنوني من أجلها.
عشر سنوات … عشر سنوات لا أستطيع بها الخروج من حيفا. ومنذ سنة 1967، منذ أن اتسعت رقعة الاحتلال الاسرائيلي أكثر، فرضوا علي عدم مبارحة غرفتي من غروب الشمس حتى مشرقها، وتسجيل حضوري في قسم الشرطة كل يوم في الساعة الرابعة بعد الظهر.
صادروا ليالي ولم يبقوا بها من خصوصية. كانت الشرطة تقرع بابي في أي وقت تريد كي تتأكد من تواجدي في البيت. لكني لم أكن حاضراً، لقد كنت مجبراً حقاً أن أمضي تدريجياً إلى المنفى منذ أن تداخلت حدود الوطن والغياب في ضباب الشعور. كنت أعلم بأن اللغة قادرة على أن تبني ما تهدم وأن تجمع ما تفرق. وليس من شك بأن “هنا” الشعر، في مرحلة نضجها بين الأفق والسلاسل، كانت بحاجة لتوسيع البعيد.
المسافة بين المنفى الداخلي والمنفى الخارجي لم تكن مرئية. كانت جزءاً من الصورة عندما كان معنى الوطن أصغر من حجمه. وفي المنفى الخارجي استوعبت كم كنت قريباً من البعيد، كم كان “هناك” “هنا”.
لم يعد ثمة شيء فردي، فكل شيء يشير إلى المجموع وليس هناك من مجموع، فكل شيء ينحو نحو الحميمية. امتدت رحلتي على طرقات متعددة حملتها على أكتافي مراراً، وهويتي الممنوعة التي تمردت على أي تقليص “للمنفى والعودة” ،كانت في أزمة. لم نعد نعلم من منا الذي هاجر، نحن أم الوطن. والوطن الذي اختار مسكنه فينا رأى صورته تتطور مع نضوج عكسه الذي يخاصمه. كل شيء يُفسّر بعكسه، والنرجس المجروح سوف ينبت بكثرة وعفوية فوق جوانب الطريق.
أخذت اللغة مكان الحقيقة، ورحلت القصيدة في البحث عن أسطورتها عبر تراث الإنسانية، واندمج “المنفى” في أدب التيه، لا ليعطي نار المأساة الشخصية مشروعية ولكن كي يلحق بالإنساني. وهنا لاحقنا الإسرائيليون بزعمهم أنهم وحدهم المنفيون العائدون بينما الفلسطينيون الذين لاقوا مزابل الأرض العربية لا يعانون من منفى. هكذا حُرمت الضحية مرة أخرى من اسمها.
كانت الضحية الوحيدة تمتلك حق خلق ضحيتها الخاصة وأوجد المنفىّ الوحيد منفيّه الخاص.
سوف أجد الفرصة بعد ربع قرن كي أشاهد جزءاً من وطني. غزّة التي لا أعرفها إلا من خلال قصائد “معين بسيسو” الذي صنع منها جنته.
الطريق التي توصل إلى غزّة عبر الصحراء تُغرق المسافر في وحدة لا يقطعها بين الفينة والفينة إلا بعض النباتات الصحراوية، وشجر النخيل الملتهب، ونصب تذكاري مصنوع من هيكل دبّابة، والبحر عن يسارك.
أحاسيسي في ذلك اليوم تنقلت بين البرود العقلاني والارتباك الذي يدرك الفرق بين الطريق وبين هدف الطريق. في العريش أصبح النخل بستاناً على حين غرة، فعرفت بأنني أقترب من هذا المجهول الذي تمنيت أن يبقى مجهولاً. حينها بدأ قلبي يفلت من عقلي وقلت: لنسارع، لنسارع كي نصل قبل المغيب.
- صبراً، صبراً … أجابني وزير الثقافة ورفيقي في الرحلة. صبراً، الوطن على قاب قوسين أو أدنى، والوطن ليس شيئاً غير خفق فؤادك وتوجساتك.
قلت: لعله ليس إلا هذه الليلة التي يحضّر فيها الحلم نفسه كي يتحقق .
لا أحلم بشيء. هنا تبدأ فلسطين الجديدة. حاجز إسرائيلي، سيارة “جيب” عسكرية، علم وجندي يسأل السائق بعربية رخوة: من تقلّ؟
- وزير وشاعر.
أحاذر أن أنظر إلى كاميرات المصورين الباحثة عن فرحة العائدين. كشافات المستوطنات الضوئية واستحكامات الجنود على جانبي الطريق تحرقني، وعندما أعلن عن دهشتي للبتر الجغرافي والخلط الذي يعتور صورة المكان، ينتظر تساؤلاتي جواب حاضر جاهز يقول: غزة وأريحا أولاً، نحن ما زلنا في أول الطريق، في بداية الأمل.
لم يكن مسموحاً لي أن أذهب إلى أريحا، فهل كان لي أن أحلم برؤية الجليل، هويتي الشخصية، من جديد ؟
- “يشترط الإسرائيليون عليك لزيارة الجليل شروطاً أخجل من أن أذكرها لك”
هذا ما قاله لي صديقي الكاتب ” إميل حبيبي ” الذي لم يكن يعلم بأنه سوف يقضي بعد سنتين، وبأن دفنه سوف يعطيني فرصة حزينة لفرحة قصيرة في ربوع فلسطين. يومها أعطوني تصريحاً بالإقامة ثلاثة أيام كي أؤبن صديقي الراحل وألاقي بيت أمي. يومها أكلتني نار العودة وقلت: من هنا خرجت وإلى هنا أعود. ثم رأيت كيف يستطيع الإنسان أن يولد مرة ثانية، وكان المكان قصيدتي.
لم يكن ينقصني شيئاً في نوبة هذه الولادة الجديدة كي أحقق موتي الموعود. ولكني كنت أعلم بأن الحقيقة التي تعرّت من الأسطورة ما تزال بحاجة للماضي وبأن التحرر من الأسطورة ما يزال بحاجة للمستقبل. أما الحاضر فلم يكن إلا زيارة قصيرة يعود بعدها الزائر كي يرحل نحو توازنه الصعب بين منفى مكره عليه ووطن بأمس الحاجة إليه. هنا لا يعارض المنفى الوطن، ولا يكون الوطن عكس المنفى.
لم أعد بعد، والطريق لما تنته بعد كي أعلن عن بداية الرحلة ….
________________________
- المصدر: مقال كتبه الشاعر الفلسطيني “محمود درويش” لمجلة
GEO الفرنسية. عدد 243 أيارمايو
طوال سنة، بدءاً من فصل الشتاء وانتهاء بالخريف المقبل تحيي باريس ومدينة الهافر الفرنسية احتفالاً بالشاعر محمود درويش بعنوان “فصل شعري”، وقد بدأ قبل أيام. والاحتفال تنظمه ثلاث مؤسسات: إذاعة “فرانس كولتور” ودار “أكت سود” ومجلة “Les Inrockuptibles”.

الليلة الأولى كانت في مدينة الهافر عبارة عن قراءة شعرية في مسرحلو فولكان” بين محمود درويش والممثل ديديان ساندر، بالعربية والفرنسية، وبثتها إذاعة “فرانس كولتوV” مباشرة. وامتلأت القاعة التي تتسع لـ 1200 شخص بجمهور فرنسي أصغى الى قصائد درويش بالصوتين العربي والفرنسي.
الليلة الثانية كان عنوانها “ليل بابل الشعري” وشارك فيها نحو ستين شخصاً من الجمهور قرأوا قصائد مترجمة لمحمود درويش وقصائد لشعراء سمّاهم درويش نفسه وهم الأقرب الى قلبه ومنهم: سان جون بيرس، يانيس ريتسوس، بابلو نيرودا، أوجينيو مونتالي،وليم بتلر ييتس وفدريكو غارسيا لوركا. وقرئت قصائد هؤلاء الشعراء بلغاتهم الأم. وقدّم بعض الحاضرين قصائد كتبوها للمناسبة، مهداة الى الشاعر درويش. وقدم البعض أغنيات ومقطوعات موسيقية. وامتدت الأمسية من السابعة مساء الى الثانية عشرة ليلاً. وتخلل الأمسية حفل موسيقي أحياه موريس المديوني.
وتكررت الأمسية نفسها في الليلة الثالثة وأدت المغنية دومنيك دوفال قصيدة “أحد عشر كوكباً” بالفرنسية على موسيقى الجاز التي وضعها فيليب لا كاريير.
أما في باريس فأحيا درويش أمسية في “ريد هول” في جامعة كاليفورنيا - باريس وقرأ بالمشاركة مع الممثل ديديان ساندر مختارات من شعره بالعربية والفرنسية. وأعقب القراءات حوار مفتوح مع الجمهور.
وفي أيار (مايو) المقبل تقدم قصيدة “جدارية” في عرض مسرحي من إخراج وسام أرباش مع ممثلين فرنسيين في مسرح “لوفولكان” (الهافر) ثم تنتقل الى باريس لتقدم على الأرجح في مسرح “الأوديون“.
وتقام خلال الشهر نفسه أمسيات شعرية أخرى عنوان إحداها “شاعر طروادي” وهي تنطلق من قصائد للشاعر درويش بالفرنسية يخرجها ألان ميليانتي. ومن الأمسيات واحدة بعنوان “يطير الحمام ويحطّ الحمام” مع مقاطع من “نشيد الأناشيد”، مع موسيقى وضعها الموسيقار رودولف بيرغر. وتغني خلال الأمسية دومنيك دوفال قصيدة “خطبة الهندي الأحمر الأخيرة“.
وتتوالى الأمسيات لاحقاً خلال الخريف المقبل ومنها: أمسية موسيقية يحييها الفنان مارسيل خليفة ويقدم فيها مقطوعات مستوحاة من شعر درويش في مناسبة مرور ثلاثين سنة على التجربة المشتركة بين الشاعر والموسيقار المغني، أمسية يقرأ فيها درويش قصائد للشاعر العربي الكبير المتنبي بالعربية ويرافقه ممثل يقرأ القصائد نفسها بالفرنسية، أمسية يحييها “الثلاثي جبران” وهي فرقة فلسطينية شهيرة، وأمسية للمغنية المغربية عائشة رضوان.
وفي مناسبة صدور ديوان “لا تعتذر عمّا فعلت” لدرويش بالفرنسية عن دار “أكت سود” في ترجمة الياس صنبر احتفى الإعلام بالشاعر وكتبت عن الديوان مقالات عدة. وأجرت مجلة “لو نوفيل أوبسرفاتوار” حواراً معه وكذلك صحيفة “لوموند” مخصصة له صفحة كاملة في العدد المزدوج الأحد - الاثنين الفائتين.
هنا مقتطفات من حوار درويش مع “لوموند”وقد أجرته سيلفان سيبيل.
عن رأيه في مسألة الرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها إحدى الصحف الدنماركية يقول: “هذا جنون يملأني أسى. في البداية، كاريكاتور النبي محمّد (صلى الله عليه وسلم) وعلى رأسه قنبلة عوضاً عن العمامة أمر مهين. يجب حماية حرية الصحافة ولكن ليس حقّ الإهانة. إذ لا يمكن إهانة معتقدات الآخرين بلا طائل. ففي فرنسا، الصحافة حرة، ولكن توجد قوانين تعاقب التعبير العلني عن العنصرية. وفي الجو العالمي الخانق الذي نعيش فيه، يجب احترام رفض المسلمين لرسم تصوّرات للنبي محمد. وفي الوقت عينه، المشكلة هي أنّ الرأي العربي والمسلم لا يشكّل فرقاً بين الشعوب في تنوّعها والحكومات. فهو يرى كلّ شيء في كتلة واحدة. والتحجّج برسم لحرق السفارات جنون أيضاً. فمن الجهتين، تتنافس قوى لمفاقمة صدام الهويّات. سيمرّ ذلك يوماً ما، إنها مرحلة موقتة. لكن بانتظار ذلك، تسيطر هذه القوى“.
وعن قضية “حماس” التي وصلت الى السلطة يقول: “لنقرّ أولاً أن تغيير نظام الحكم جرى في طريقة ديموقراطية جداً. وهذا أمر إيجابي في العادات السياسية في المجتمع الفلسطيني. وبحلول ذلك، تحمّل إسرائيل مسؤولية كبيرة. فقد نشرت مناخاً من عدم الشرعية للسلطة الفلسطينية مهدّ الطريق لـ “حماس”. فضلاً عن سياستها التي تجعل الحياة الفلسطينية اليومية غير ممكنة. وساهم تجاهل السلطة في توليد مناخ ضار، ما دفع بالكثيرين إلى التفكير قائلين: “لماذا لا نجرّب طريقاً أخرى؟ لا يمكن أن يكون الوضع أسوأ.” كان التصويت لـ “حماس” اعتراضياً بقدر ما كان دينياً. والآن علينا العيش مع هذه التجربة. ولكن لا يمكنني إخفاء مخاوفي، فقد أعلن مسؤولون من “حماس” عن نيّتهم في “إعادة تشكيل المجتمع على قاعدة إسلامية.” حين ندافع عن فلسطين علمانية تعددية، لا يمكننا أن نقلق سوى في شأن حقوق المرأة والشباب والحريات الفردية، من دون أن ننسى المكّون المسيحي. آمل أن تنظّم حماس القاعدة التي أوصلتها إلى السلطة وتحترمها، هذه القاعدة التي كانت دوافعها بالإجمال اعتراضية. من ناحية أخرى، سيخدم ذلك كتبرير لأحاديتهم. ولكن إن نووا الحفاظ على مجموعات مستوطناتهم وإعطاءنا بعض القرى كرماً منهم، فهذا يعني أنّهم لا يريدون السلام. وهذا لن ينفع، إلى أن يستوعبوا الواقع: السبيل الوحيد هي بإنهاء الاحتلال“.
وعن تردده في التطرّق الى السياسة يقول درويش: “إنّني أعيش في الحيرة. لا أرفض الكلام في السياسة، ولكن أرفض كل التأكيدات في حاضر مضطرب إلى هذا الحدّ. فأنا لست أكيداً من نظرتي الخاصة. أنا أدمج التعقيد في عملي كشاعر، فكلّ شاعر أو حتى كل كاتب من العالم الثالث يقول إنّه لا يهتمّ بالمجتمع أو السياسة هو كاذب. لست كاذباً حتى الآن. أما للفلسطينيين فالسياسة أمر وجودي، لكن الشعر أكثر حنكة، إذ يسمح بالدوران بين احتمالات عدة. فهو يرتكز على الاستعارة والإيقاع والاهتمام بالرؤية خلف المظاهر. لكن الشعراء لا يديرون العالم، وهذا أفضل، فالفوضى التي يدخلونها قد تكون أسوأ من فوضى السياسيين“.
وتسأله: “في كتابكم الأخير الذي ظهر بالفرنسية، تكتب: “أنا ما سأكون عليه غداً”. هذا شعر مفاجئ من شاعر يعتمد عدم التغيّر”، ويرد: “على العكس، فالحاضر يخنقنا ويمزّق الهويّات. لهذا لن أجد نفسي الحقيقية قبل الغد، حين أتمكّن من قول شيء آخر أو كتابته. فالهوية ليست إرثاً بل تكوين. فهي تكوّننا ونكوّنها باستمرار، ولن نعرفها إلاّ غداً. أنا هويّتي متعدّدة ومختلفة. أنا غائب اليوم وسأكون حاضراً غداً. أحاول تنمية الأمل كما ننمّي الطفل، لكي أكون ما أريده وليس ما يريدونني أن أكون
الحياة
ليس دفاعا عن كتابي الجديد
لستُ من الذين ينظرون إلي المرآة برضا. المرآة هنا هي انكشاف الذات في صورة صارت ملكية عامة… أي صار من حق غيرها أن يبحث عن ملامح ذاته فيها. فإذا وجد فيها ما يشبهه أو يعنيه من تعبير وتصوير، قال: هذا أنا. وإذا لم يعثر علي شراكة في النص / الصورة، أشاح بوجهه قائلاً: لا شأن لي
كما أخشي هذا التعليق الذي صار رائجاً في العلاقة بين الكثير من الشعر الحديث وبين أغلبية القُرَاء، منذ استمرأ الكثيرون من الشعراء توسيع الهُوَة بين القصيدة وكاتبها الثاني: المتلقِي الذي لا يتحقق المشروع الشعري بدونه، وبدون تحركه في اتجاه النص. التُهَمُ متبادلة بين الطرفين. لكن أزمة الشعر، إذا كانت هنالك أَزمة، هي أزمة شعراء. وعلي كل شاعر أن يجتهد في حلِها بطريقته الإبداعية الخاصة
أَعلَمُ أنني سأُتَهم، مرة أخري، بمعاداة شعر الحداثة العربية التي يُعرِفُها العُصَابيُون بمعيارين. الأول: انغلاق الأَنا علي محتوياتها الذاتية دون السماح للداخل بالانفتاح علي الخارج. والثاني: إقصاء الشعر الموزون عن جنَة الحداثة.. فلا حداثة خارج قصيدة النثر. وتلك مقولة تحوَلت عقيدةً يُكَفِرُ مَنْ يقترب من حدودها متسائلاً. وكُلُ مَنْ يُسَائِلُ الحداثة الشعرية عما وصلت إليه يُتَهَم، تلقائياً، بمعاداة قصيدة النثر لم أَكُفَ عن القول إن قصيدة النثر التي يكتبها الموهوبون هي من أَهم منجزات الشعر العربي الحديث، وإنها حقَقت شرعيتها الجمالية من انفتاحها علي العالم، وعلي مختلف الأجناس الأَدبية، لكنها ليست الخيار الشعري الوحيد، وليست الحل النهائي للمسألة الشعرية التي لا حلَ نهائياً لها، فالفضاء الشعري واسع ومفتوح لكل الخيارات التي نعرفها والتي لا نعرفها. ونحن القراء لا نبحث في التجريب الشعري المتعدِد إلاَ عن تحقُق الشعرية في القصيدة، سواء كانت موزونةً أَو نثرية
وأَعلم أَيضاً أَن مجموعتي الشعرية الجديدة، كسابقاتها، ستُزوِد خصومي الكثيرين بمزيد من أَسلحة الاغتيال المعنوي الشائعة في ثقافة الكراهية النشطة. سيُقال ـ كما قيل ويُقال ـ إنني تخليت عن شعر المقاومة . وسأعترف أمام القضاة المتجهمين بأَنني تخلَيت عن كتابة الشعر السياسي المباشر محدود الدلالات، دون أَن أَتخلَي عن مفهوم المقاومة الجمالية بالمعني الواسع للكلمة… لا لأن الظروف تغيَرت، ولأننا انتقلنا “من المقاومة إلي المساومة ، كما يزعم فقهاءُ الحماسة، بل لأن علي الأسلوبية الشعرية أن تتغيَر باستمرار، وعلي الشاعر أن لا يتوقف عن تطوير أَدواته الشعرية، وعن توسيع أُفقه الإنساني، وأن لا يكرِر ما قاله مئات المرات… لئلاَ تصاب اللغة الشعرية بالإرهاق والشيخوخة والنمطية، وتقع في الشَرَك المنصوب لها: أَن تتحجر في القول الواحد المعاد المـُكَرَر. فهل هذا يعني التخلِي عن روح المقاومة في الشعر؟
أَما من دليل آخر علي المقاومة سوي القول مثلاً: سجّل أنا عربي، أو تكرار شعار: سأُقاوم وأُقاوم؟ فليس من الضروري، لا شعرياً ولا عملياً، أن يقول المقاوم إنه يُقاوم، كما ليس من الضروري أن يقول العاشق إنه يعشق. لقد سمَانا غسان كنفاني شعراء مقاومة دون أَن نعلم أَننا شعراء مقاومة. كنا نكتب حياتنا كما نعيشها ونراها. وندوِن أحلامنا بالحرية وإصرارنا علي أن نكون كما نريد. ونكتب قصائد حب للوطن ونساء محدَدات. فليس كل شيء رمزياً. وليس كل ساق شجرة نخيل خصر امرأة أو بالعكسلا يستطيع الشاعر أن يتحرَر من شرطه التاريخي. لكن الشعر يوفِر لنا هامش حرية وتعويضاً مجازياً عن عجزنا عن تغيير الواقع، ويشدنا إلي لغة أَعلي من الشروط التي تُقيِدنا وتُعرقل الانسجام مع وجودنا الإنساني، وقد يُساعدنا علي فهم الذات بتحريرها مما يُعيق تحليقها الحر في فضاء بلا ضفافإن التعبير عن حق الذات في التعرف علي نفسها، وسط الجماعة، هو شكل من أشكال البحث عن حرية الأفراد الذين تتكون منهم الجماعة. ومن هنا، فإن الشعر المعبر عن سِمَاتنا الإنسانية وهمومنا الفردية ـ وهي ليست فردية تماماً ـ في سياق الصراع الطويل، يُمثِل البعد الإنساني الذاتي من فعل المقاومة الشعرية، حتى لو كان شعر حُب أو طبيعة، أو تأمُلاً في وردة، أو خوفاً من موت عادي
ليس صحيحاً أنه ليس من حق الشاعر الفلسطيني أن يجلس علي تلَة ويتأمَل الغروب، وأَن يصغي إلي نداء الجسد أو الناي البعيد، إلا إذا ماتت روحه وروح المكان في روحه، وانقطع حبل السُرَة بينه وبين فطرته الإنسانية
وليس الفلسطيني مهنة أو شعاراً. إنه، في المقام الأول، كائن بشري، يحبُ الحياة وينخطف بزهرة اللوز، ويشعر بالقشعريرة من مطر الخريف الأول، ويُمارس الحب تلبيةً لشهوة الجسد الطبيعة، لا لنداء آخر… وينجب الأطفال للمحافظة علي الاسم والنوع ومواصلة الحياة لا لطلب الموت، إلا إذا أَصبح الموت فيما بعد أفضل من الحياة! وهذا يعني أن الاحتلال الطويل لم ينجح في محو طبيعتنا الإنسانية، ولم يفلح في إخضاع لغتنا وعواطفنا إلي ما يريد لها من الجفاف أمام الحاجز
إن استيعاب الشعر لقوَة الحياة البديهية فينا هو فعل مقاومة، فلماذا نتهم الشعر بالردة إذا تطلَع إلي ما فينا من جماليات حسية وحرية خيال وقاوم البشاعة بالجمال؟ إن الجمال حرية والحرية جمال. وهكذا يكون الشعر المدافع عن الحياة شكلاً من أشكال المقاومة النوعية
هل أتساءل مرة أُخري إن كان الوطن ما زال في حاجة إلي براهين شعرية، وإن كان الشعر ما زال في حاجة إلي براهين وطنية؟ إن علاقة الشعر بالوطن لا تتحدَد بإغراق الشعر بالشعارات والخارطة والرايات. إنها علاقة عضوية لا تحتاج إلي برهان يومي، فهي سليقة ووعي وإرادة. ميراث واختيار. مُعْطيً ومبدع. ولكن الشعر الوطني الرديء يسيء إلي صورة الوطن الذي يشمل الصراع عليه وفيه مستويات إبداعية لم ننتبه إليها دائماً
لذلك، فإن حاجتنا إلي تطوير أشكال التعبير عن الجوانب الإنسانية في حياتنا العامة والخاصة، بتطوير جماليات الشعر، وأَدبية الأدب، وإتقان المهنة الصعبة، والاحتكام إلي المعايير الفنية العامة، لا إلي خصوصية الشرط الفلسطيني فقط، هي مهام وطنية وشعرية معاً، وهي ما يؤهِل شعرنا للوصول إلي منبر الحوار الإبداعي مع العالم، فيصبح الاعتراف بقدرتنا العالية علي الإبداع أحد مصادر الانتباه إلي وطن هذا الإبداع. فكم من بلد أَحببناه، دون أن نعرفه، لأننا أَحببنا أَدبه
هكذا تمحِي الحدود بين وطنية الشعر وبين نزعته الدائمة لاجتياز حواجز الثقافات والهويات، والتحليق المشترك في الأفق الإنساني الرحب، دون أن ننسي أن للشعر دوراً خاصاً في بلورة هوية ثقافية لشعب يُحارب في هويتهنعم، علي الشعراء أن يتذكروا كل العذاب، وأَن يُصْغوا إلي صوت الغياب، وأَن يُسَمُوا كل الأشياء، وأن يخوضوا كل المعارك. ولكن عليهم أيضاً ألا ينسوا واجبهم تجاه مهنتهم. وأَلا ينسوا أن الشعر لا يُعَرَف، أساساً، في ما يقوله، بل بنوعية القول المختلف عن العادي، وألا ينسوا أن الشعر متعة، وصنعة، وجمال. وأَن الشعر فرح غامض بالتغلُب علي الصعوبة والخسارة، وأنه رحلة لا تنتهي إلي البحث عن نفسه في المجهول
وأنا هنا، لا أُدافع عن كتابي الجديد الذي لم يعد لي. ولم أَعد أتذكر شيئاً منه، منذ خرج مني وأَدخلني في مأزق السؤال الفادح: ماذا بعد؟ بل أُدافع عن حق الشعراء في البحث عن شعر جديد، يُنَقِي الشعر مما ليس منه. فإن شقاء التجديد. أَفضل من سعادة التقليد المتحجر

بمناسبة يوم الارض لفلسطين حبيبتنا

ملف المقالات 2

كتبهامحمد عبيد ، في 14 أغسطس 2008 الساعة: 18:43 م



الآن وأنت مسجّـَـى على صوتك. ونحن من حولك، رجوع الصدى من أقاصيك إليك.
الآن لا نأخذك إلى أي منفى، ولا تأخذنا إلى أي وطن. ففي هذه الأرض من المعاني والجروح ما يجعل الإنسان قديسًا منذ لحظة الولادة، وشهيدًا حيًّا مضرّجًا بشقائق النعمان من الوريد إلى الوريد.
كان لي موعد معك، هنا في ناصرة البشارة والإشارة، فانتعلتُ قلبي وحملت هواجسي في يدي: هل أصل هذه المرَّة إلى جنة الجحيم هذه؟! أم سيعلمني السراب ثانية أن للأرض أرضًا أُخرى قريبة منها وبعيدة؟ ولم تكن أنت ذريعة للنداء. كنت العناق البعيد. أما كان في وسعي أن أجد الإثنين، دليلي وسبيلي؟! أم أن المصائر اعتادت على لعبة الحضور والغياب! على إيقاظ القلب من سكرته: لا تحلم بما لا تستحق. فليس هذا اللقاء سوى وداع.
مَــن يودِّع مَــن، أيها الساحر الساخر من كل شيء؟ ومن وقفتي هذه بالذات؟ فهأنذا أراك تغمز المشهد بنظرتك الشقيّــة، لا لشيء إلا لأنك تعرف نفسك وتعرفنا واحدًا واحدًا منذ أقدم الفاتحين حتى آخر العائدين. وتعرف أن الذات، لا الموضوع، هي ما يجعل المرء يركض من المهد إلى اللّحد بحثًا عن ذاته التي لا تجد ذاتها، إلاّ إذا امتلأت بخارجها. وكم كابدت في هذه الرحلة. كم كابدت كي تجد الأدب هناك في تلك المنطقة المتوتِّرة من السؤال. فكنت كما تريد أن تكون وكما لا تريد. وحيدًا في زحامك ومزدحمًا في وحدتك. ولكن حدود الكون كانت واضحة فيك من غير سوء. هنا على هذه الأرض القديمة الصغيرة يجري الحوار بين الواقعي والخرافي، بين الزمني والروحي، بين النسبي والمطلق، بين الزائل والدائم، بين الحق والباطل، بين الحرب والسلام. وهنا.. هنا البداية وهنا النهاية.
باقٍ في حيفا، حيًّا وحيًّا.
باقٍ في حيفا، هو الإسم الذي سمّــيت به إسمك. لا لتميِّز بين صعود الجبل وبين هبوط الجبل. ولا كي تحدِّد الفارق بين الباقي في منفى هويّته، وبين العائد إلى هويّة منفاه. بل لتفعل فعلتك الخاصة بالأسفار، ولتحفر فوق المخطوطات ما لست في حاجة إلى تأكيده، إلاّ لمواجهة زمن طال فيه الشك شرعية الأُم. حين صار في وسع القوة الواثقة من امتلاك الحاضر، أن تضع الماضي على مائدة التساؤل، لتملي عليك روايتها: حجرًا في مواجهة بشر.
لم يرتكب شعبك من خطيئة سوى إسم هذه الهوية الذي تحفره في قطعة من رخام وفي الذاكرة الجماعية:
باقٍ حيث ولد في المكان الذي واصل فيه سليقة العلاقة العضوية المستمرَّة، وبلا قطيعة، بين الأرض وتاريخها ولغتها. وتابع فيه الإصغاء المرهف بخشوع ومحبَّة إلى كلام السماء إلى الأرض. ليعيش حياته البسيطة قنوعًا بحصته من الماء والهواء والضوء وتبدُّل الفصول والغزوات، لتصبح الأرض التي غابت عنها طبيعتها أرض التعدُّدية والتسامح والسلام.
لقد شاءت طبيعة التطور التاريخي في تقاطع المصائر الإنسانية أن تجعل هذه الأرض المقدسة بلدًا لشعبين، بعدما تعرض شعبها الفلسطيني إلى المصير التراجيدي المعاصر وبذل تضحيات تفوق طاقة البشر لتثبيت هويته الوطنية، وحقه في الإستقلال. وكنت أنت منذ البداية وحتى هذه اللحظة، أحد المنابر المتحرِّكة الأقوى والأعلى، الداعية إلى سلام الشعوب بحق الشعوب. السلام القائم على العدل والمساواة ونفي إحتكار الله والأرض، للوصول إلى المصالحة التاريخية الحقيقية بين الشعبين، مع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
والآن وأنت مسجّــى على هذا المفترق، على لون هذا الغسق الداكن مدمى بالأمل وبخيبة الأمل، باليقين وبالشك معًا، فإن أكثر من جيل واحد من الباقين هنا يعبر عن دَينه لك، للطريقة التي حللت بها جدلية التوتُّر الوجودي والثقافي بين الجنسية والهويّة، بطريقة وحيدة هي البقاء والدفاع عن حقِّهم في المساواة. وإمداد عناصر الهوية بمكوناتها الثقافية، الوطنية والقومية التي لا وجود لهم بدونها.
فطوبى لك أيها المعلم الذي جعل الحنين فاكهة، وسيّـَـج الحيرة بزهرة القندول.
كم أنت يا حبيبي، كم فيك من تناقض هو أحد مرايا تناقضاتنا التي تكسر اللغة من فرط نزوع المأساة إلى ارتداء قناع الملهاة. في كل واحد منّــا واحد منك ونحن جميعًا فيك. وفي كل لحظة من زماننا أكثر من تاريخ يتبّدل قبل أن يمنحنا فرصة للتكيّـُـف أو فرصة للتذكُّــر. تاريخ ينقض علينا كقطار عشوائي، فماذا تفعل في انتحار الرحمة؟ لم تكن السخرية خيارك الأدبي بقدر ما كانت حجتك في وجه هذا العبث، وطريقة في اختيار برج للرصد، ونقطة للوقوف على قدم المساواة مع الخصم ومع القدر معًا.
إذا كنّــا نلعب، فتلك هي شروط اللعبة، لسانًا بلسان، لا طائرة ضد طائر. وفي هذه المنطقة أيضًا يتبطّــن المعنى معنى ثانيًا، ويلجأ الفرد إلى ذاته ساخرًا من عبء رسالتها فيخف الحمل الثقيل من أجل الإنتقال إلى حمل أثقل، في صحراء الإيقاع الذي لا يتوتَّر إلاّ لينسجم بين السياسي والأدبي. لا، لن تستطيع العودة إلى الوراء لإجراء التعديل المبتغى على مصيرك. تلك كانت حسرتك الأخيرة، أن تتخلى عن السياسة منذ البداية لتكون أديبًا منذ البداية. فأنت من أنت إبن شرطك التاريخي وابن ذاتك. وليس من شيم هذه البلاد أن ترحم أبناءها ليكونوا عاديين كسائر البشر. وليس من شيمها أيضًا أن تأذن للضحية بلوم نفسها. وفيك من المساحات والأصوات، فيك من تقاطع الطرق وحوادثها، فيك من البطل والضحيّة والشاهد، فيك من الأنا والجماعة والآخر، ما كان يُــعجِــز الفرد فيك عن أن تكون الراوية، لأنك أنت، أنت الرواية المفتوحة على الجهات كلّها والمفارقات كلّها والأسئلة كلّها ما عدا سؤالاً واحدًا: هل إنتصار الإطار هو هزيمة المعنى، وهل هزيمة الأداة هي موت الفكرة؟
والآن وأنت مسجّــى على فكرتك ذات الأقانيم الثلاثة، الحرية والعدل والسلام، فإن شعبك بأسره، شعبك العربي وأشقاءه من آخر الصحراء حتى آخر البحر، وأصدقاءه الأوفياء، أصدقاءك، من قوى السلام في هذه البلاد وفي العالم، يزدادون وفاءً لفكرتك فتلك هي وصية الحُــر للحُــر، وتلك هي هوية وجودنا الإنساني المشترك على أرض المعاني الإنسانية العريقة والتعدُّدية الثقافية والدينية والقومية. أرض السلام العطشى إلى السلام.
فانهض معنا يا أبا سلام لنمضي قليلاً معك وإليك، إلى هناك، إلى حيث تريد أن تنام حارسًا دائمًا لتلفُّــت القلب إلى حيفا. واغفر لنا يا معلِّمنا ما صنعت بنا وبنفسك. إغفر لنا أننا سنعود بعد قليل إلى أنفسنا ناقصين.

في رثاء ممدوح عدوان
كما لو نودي بشاعر أن انهض
على أربعة أحرف يقوم اسمُك واسمي، لا على خمسة. لأن حرف الميم الثاني قطعة غيار قد نحتاج اليها أثناء السير على الطرق الوعرة.
……..
في عامٍ واحد وُلدنا، مع فارق طفيف في الساعات وفي الجهات. وُلدنا لنتدرّب على اللعب البريء بالكلمات. ولم نكترث للموت الذي تَدقّه النساء الجميلات، كحبة جوز، بكعوب أحذيتهن العالية.
عالياً، عالياً كان كُل شيء… عالياً كالأزرق على جبال الساحل السوري، وكما يتسلق العشب الانتهازي أسوار السلطان، تسلقنا أقواس قُزحٍ، لنكتب بألوانها أسماء ما نحب من الأشياء الصغيرة والكبيرة:
يداً تحلب ثدي الغزالة،
مجداً لزارعي الخسّ في الأحواض، شغف الإسكافي بلمس قدم الأميرة، ومصائد أخرى لجمهور مطرود من المسرح.
لم ننكسر بدويٍ هائل كما يحدث في التراجيديات الكبرى، بل كأشعة شمس على صخور مدَببة لم يُسفك عليها دم من قبل، لكنها أخذت لون النبيذ الفاسد، ولم نصرخ، هناك، لأن لا أحد، هناك، ليسمع: أو يشهد.
دلتني عليك تلك الضوضاء التي أحدثتها نملة بين الخليج والمحيط، حين نجت من المذلة، واعتلت مئذنة لتؤذن في الناس بالأمل،
ودلتك عليّ سخرية مماثلة!
ولما التقينا عرفتك من سُعالك، إذ سبق لي أن حفظته من ايقاع شعرك الأول، يُفزع القطط النائمة في أزقة دمشق العتيقة، ويبعثر رائحة الياسمين.
لم يكن لنا ماضٍ ذهبي على أهبة العودة، كما يدّعي رواد المقهى الخائفون من القبض على قرون الحاضر الهائج كالكبش، ولا غد أكيد، خلفنا، كما يدعي رواد الشعر الخالي من الملح، المتخم بفراغ المطلق.
لم نبحث إلا عن الحاضر.
ولكننا، من فرط ما أُهنّا، بشرنا بالقيامة بصوت مرتفع، أثار علينا غضب الملائكة المنذورين لصيانة اللغة الصافية من غبار الأرض، والباحثين عن الشعر الصافي في جناح بعوضة.
ودُعينا، في غرف التشريح معقمة الهواء والكلام، الى بتر المفردات كثيرة الاستعمال. وسرعان سرعان ما علاها الصدأ من قلة الاستعمال، وفي أولها: الحياة… ومشتقاتها.
لكننا آثرنا أن نخاصم الملائكة.
ممدوح، لا أطيق سماع اسمك الآن، لأنه يذكرني بما ينقصني من رغبةٍ في الضحك معك على عورة بردى المكشوفة كأسرارنا القومية. ولأنه يُذكرني بمدى حاجتي الى استراحة من الركض آناء النوم، بحثاً عن حلم مسروق، أراه واضحاً وأحاور السارق. ويذكرني اسمك بما أنا فيه من طقطقة كأني حبّة بلوط في موقد الفقير ليلة العيد.
لهذا، اكتب اسمك ولا ألفظه، ففي الكتابة يتموج اسمك على ماء الحضور. وفي الكلام أسمع وحش الغياب يطاردني من حرف الى حرف، ليفترس الشلو الأخير من قلبي الجائع الى هجائك المادح.
ممدوح! ماذا فعلت بك وبنا؟ فلم نعد نحزن من تساقط شعرك المبلل بالزيت، فإنك تستعيده الآن من عشب الأرض. ولكن، في أية ريح أخفيت عنا سعالك، فلم يعد في غيابك متسع لغياب آخر.
لا لأن حروف اسمك هي حروف اسمي، لا أتبين من منا هو الغائب، بل لأن الحياة التي آلفت بين ثعلبين ماكرين لم تمنحنا الوقت الكافي لنقول لها كم أحببناها، وكم أحببنا فجورها وتقواها… فتركت ثعلباً منا بلا صاحب.
لا جلجامش ولا انكيدو. ولا الخلود هو المبتغى ولا قوة الثور. فنحن الخفيفان الهشان، كواقعنا هذا، لم نطلب أكثر من وقت اضافي لنلعب بالكلمات لعباً غير بريء، هذه المرة، أو لنورث ما لم نقله بعد من لم يقل بعد. ولنجعل من الشعر مزاحاً مستحباً مع العدم. لكن حرف الميم الثاني في اسمك واسمي ظلَّ قطعة غيار لا تنفع.
ممدوح! هذا هو وقت الزفاف الفاحش بين الرعد والصحراء، شرق الشمال، لإنجاب الكمأ اعجازي التكوين. صف لي ولادة الكمأة أصف لك عجزي عن وصف القصيدة، فانظر شرق الشمال!
هي حسرة التعريف، أنين الرمل على الشاطئ حيث يرفع القمر، بأصابعه الفضية، سروال البحر وقت الجزر، ويرش علينا قصيدة حب، إباحية التصوف.
فاغضض من صوتك، لا من بصرك، وانظر. فمنذ ولادة اللغز الكوني، والشعر مختبئ في أشد المواقع انكشافاً. ويظهر جلياً جلياً في اللامرئي من سماء مسقوفة بكفاءة الغيب.
كل الأزهار شريفة حيث تترك لحالها، ما عدا القرنفلات الحمر التي يضعها الجنرالات، ما بين وسامٍ ونجمة، على بزة سوداء أو كحلية… لخداع أرامل الشهداء.
وكل اليمامات نظيفة، حتى لو بالت على شرفاتنا والوسائد، ما عدا اليمامات التي يدربها الغزاة والطغاة معاً، وعلى حدة، على الطيران الرسمي في أعياد ميلادهم، وفي مناسبات وطنية أقل أهمية.
الآن، لا أتذكر شيئاً منك. فالذكرى تلي الحرب والموت والزلزال. وأنت، ما زلت معي تكتب هذه المرثية، على هذه الورقة البيضاء، في هذا الليل البارد… أو نكتبها معاً لشاعر محبط. فلعلها لا تعجبه فيتوقف عن اغتيال نفسه، الى أن يقوم غيرنا بكتابة مرثية أفضل، لا تعجبه هي أيضاً، فينتظر غيرها ويحيا أكثر.
كما لو نُودي بشاعرٍ أن انهض من هذا الألم.
وأنسى الآن، لتبقى معي، أكثر من غلسٍ لم يدركنا ولم ندركه قبل أن تُفرغ آخر كرم عنبٍ مقطر في كأسك التي لا تخلو أبداً إلا لتنكسر، أيها العاصر الماهر!
ليس هذا مجازاً، بل هو أسلوب ليلٍ لا يصلح إلا ضيفاً، وأنت المضيف الباذخ. وإن افتأت عليك، كصديقٍ حامض القلب، عاملته بالحسنى وأرقت عليه حليب الفجر.
لكني لا أنسى ضحكتك التي تشبه شجرة زنزلخت مبحوحة الأغصان، عاليةً وعريضة، لا تاريخ لها منذ صار التاريخ قهقهة عابثة. ومنذ عادت الجرار الى حفظ الصدى، كالزيت، خوفاً عليه من آثار الشمس الجانبية.
كم حيَّرني فيك انشقاق طاقاتك الإبداعية عن مسار التخصص، كعازفٍ يحتار في أية آلة موسيقية يتلألأ. لم أقل لك ان واحداً منك يكفي لتكون عشيرة نحل تمنح العسل السوري مذاق المتعة الحارق. بحثت عن الفريد في الكثير، من دون أن تعلم أن الفريد هو أنت. وأنت أمامك بين يديك. ألا ترى اليك، أم وجدت نفسك أصفى في تعددها، يا صديقي المفرط في التشظي ككوكبٍ يتكون.
فصصت الثوم للقصيدة لتحمي شرايينها من التصلب. فالشعر، كالجسد، في حاجة هو أيضاً الى عناية طبية، والى فصادٍ كلما أُصيب الدم بالتلوث. آه، من التلوث الذي جعل الإيقاع نشازاً، واستبدل حفيف الشجر بموسيقى الحجر، واعتبر الحياة عبئاً على الاستعارة!
لكن هذا لم يهمك. لأن الحياة لا تُوهب لتعرف أو تعرض للنقاش، بل لتُعاش… وتعاش بكاملها، وتُلتهم كقطعة حلوى إلهية، أو شفتين ناضجتي الكرز. وقد عشتها كما شئت أنت، لا كما هي شاءت. أحببتها فأحبتك. وشاكست ما يجعلها أحد أسماء الموت، في عصر القتل المعولم الذي يمنح القتلى قسطاً من الحياة لا لشيء… الا لينجبوا قتلى.
يا ابن الحياة الحر، أيها المدافع عن جمال الوردة العفوي، وحرية العشاق في العناق على مرأى من كهان الطهارة اللوطيين! من بعدك سيسخر ممن يتقنون تسمية الآلهة، ولا يقوون على تسمية الضحايا؟ يأنفون من الانتباه الى دم مسفوك على طريق المعراج، ويسرفون في التحديق الى غيمة عابرة في سماء طروادة، لأن الدم قد يلطخ نقاء الحداثة المتخيلة، ولأن الغيم سرمدي الدلالات. لعلهم على حق، ما دامت هزائمنا تستدعي تطوير النقد الى هذا الحد!
لكن هذا أيضاً لا يهمك، أيها المتعالي على التعالي، أيها العالي من فرط ما انحنيت بانضباط جنديٍ أمام سنبلة، ونظرت، حزيناً غاضباً، الى أحذية الفقراء المثقوبة، فانحزت الى طريقها الممتلئ بغبار الشرف. الشرف؟ يسألك المترجم: ما معنى هذه الكلمة؟ فلم أجدها في الطبعات الجديدة من المعاجم.
ممدوح، يا صديقي، لماذا كما يفعل الطرخون خانك وخاننا قلبك؟ لماذا لم تعلم كم نحبك؟ لماذا تمضي وتتركني ناقصاً؟ لماذا… لماذا؟
ألقى الشاعر محمود درويش هذا النص في أربعين الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان

في اربعين محمد الماغوط
في أمسية غياب كهذه، وفي المكان هذا، كنا في العام الماضي ننثر ورد الحب علي اسم الراحل ممدوح عدوان. لم يحضر محمد الماغوط كاملا، لعجز عكازه عن اسناد جبل. لكنه حضر صورة شاحبة وصوتا متهدجا ليذكٌرنا بأن للوداع بقية.ذهبنا اليه في صباح اليوم التالي. كانت العاصفة مسترخية علي أريكة، تشرب وتضحك وتدخن وتعانق زوارها. كانت العاصفة مرحة فرحة بما تبقي فيها من هواء وضيوف، ولا تأسف علي ما فعلت باللغة وبالنظام الشعري. فهي لا تعرٌّف الا من آثارها عندما تهدأ. هدأ الماغوط ونظر الي آثاره برضا الفاتح المرهق. قلنا له وقال لنا ما يقول العارفون بأن اللقاء وداع. وضحكنا كثيرا لنخفي خوفا أثاره فينا انكبابه علي ترتيب الموعد القاسي مع سلامه الداخلي، فمثل هذا المحارب لا تليق به السكينة.لكنه لم يكن حزينا ولا خائفا مما يتربص به. وضّع الماضي كله علي المائدة، ووزع علي كل واحد منا حصته من الذكريات والمودة، قرأ لنا ما يدون من خواطر يومية عاجلة، فهو في سباق مع معلوم يشاغله بالطرق علي فولاذ المجهول. وحياني بقصيدة، فخجلت، وقلت في نفسي: لماذا لم يصدٌِقني من قبل؟وهو، الذي لا يحب الإعلام، ابتهج بوصول فريق اذاعي، ربما ليعلن وصيته الأخيرة علي الملأ: أوصيكم بالحب… فهذا الغاضب من كل شيء لم يغضب إلا لأن الحب في هذا العالم قد نضب. ولم يغضب الا لأن زنزانة هذا العالم ما زالت تتسع لسجين رأي مختلف. ولأن أرصفة هذا العالم ما زالت تزدحم بالفقراء والمشردين. ولم يغضب إلا لأن لفظة الحرية، بمعناها الشخصي والعام، ما زالت مستعصية علي العرب والعاربة والمستعربة… والإعراب!فوجئنا بصحافي يسألنا بلا رحمة: هل جئتم الي الماغوط لحضور جنازة مبكرة؟ تحسس كل واحد منا قلبه وتلعثم، الا هو، هو النسر الوحيد في ذروته، ملتفا بكبرياء الأعالي وبمصاهرة البعيد. لم يكن سؤال الموت سؤاله ما دام يكتب… ففي كل كتابة ابداعية نصر صغير علي الموت، وهزيمة صغري أمام إغواء الحياة التي تقول للشاعر: هذا لا يكفي، فما زالت القصيدة ناقصة! وكنا نعلم اننا جئنا للقائه لنتدرب علي وداعه.رحل الماغوط، ونقص الشعر. لكنه لم يأخذ شعره معه كما فعل الكثيرون من مجايليه الذين صانوا سلطتهم الشعرية في حياتهم بحرٌاس النقد والأحزاب. فهذا الوحيد الخالي من أية حراسة نظرية وتنظيم إعلامي، لم يراهن الا علي شعريته وحريته، وعلي قارئه المجهول الذي وجد في قصيدته صدي صوته وملامح صورته، بعدما أقامت كلماته المكتوبة بالجمر جسر اللقاء بين الذات والموضوع، وبين الذات وما تزدحم به من آخرين.وهو، هو الذي جاء من الهامش واختار هامش الصعلوك، كان نجما دون أن يدري ويريد. فالنجومية هي ما يحيط بالاسم من فضائح. وشعره هو فضيحتنا العامة، فضيحة الزمن العربي الذي يهرب منه الحاضر كحفنة رمل في قبضة يد ترتجف خوفا من الحاكم ومن التاريخ. حاضر يقضمه ماض لا يمضي وغد لا يصل. كم أخشي القول ان الزمن الذي هجاه الماغوط ربما كان أفضل من الزمن الذي ودٌعه. فقد كنا ذاهبين، علي الأقل، الي موعد مرجأ مع أمل مخترع. لا بأس من أن يكون ماضينا أفضل من حاضرنا. ولكن الشقاء الكامل هو أن يكون حاضرنا أفضل من غدنا. يا لهاويتنا كم هي واسعة!رأي الماغوط الهاوية فخاف. خاف بشجاعة المقاوم. فنظر الي الأفق بعيون الشاعر الطائر، فخاف ثانية، وقاوم الخوف برؤيا الشاعر الحالم، فماذا علي الشاعر أن يفعل غير أن يخلص مرتين: مرة لانتمائه الي الواقع، ومرة لتجاوز الواقع بالخيال وبصناعة الجمال؟لكن هذا الخائف علي عفوية الحياة، وعلي العلاقة السرية بين الأشياء والكلمات، رأي الخوف كما تجري المواد الأولية لبناء الكابوس، فقاومه بحرية الكلمات في تحرير صاحبها وقارئها، وقاومه بالتخلي عن حنين اللغة الي ماضي أطلالها وقصورها معا، وبفروسية من لا يملك شيئا ليخسره، وأكاد أقول: بمغامرة يأسه اشتق الأمل لغيره، فأخاف ما يخيفه، كما تجخيف الملحمة الشعرية الموت المتربص بأبطالها وقرائها الخالدين. لقد أخافت لغة الماغوط الساخنة الساخرة الجميع من فرط قوة الهشاشة في أعشابها، ومن فرط دفاعها عن حق الوردة في حماية خصائصها.وهو فضيحة شعرنا. فعندما كانت الريادة الشعرية العربية تخوض معركتها حول الوزن، وتقطعه الي وحدات ايقاعية تقليدية المرجعية، وتبحث عن موقع جديد لقيلولة القافية: في آخر السطر أم في أوله… في منتصف المقطع أم في مقعد علي الرصيف، وتستنجد بالأساطير وتحار بين التصوير والتعبير، كان محمد الماغوط يعثر علي الشعر في مكان آخر. كان يتشظي ويجمع الشظايا بأصابع محترقة، ويسوق الأضداد الي لقاءات متوترة. كان يدرك العالم بحواسه، ويصغي الي حواسه وهي تملي علي لغته عفويتها المحنكة فتقول المدهش والمفاجئ. كانت حسيته المرهفة هي دليله الي معرفة الشعر… هذا الحدث الغامض الذي لا نعرف كيف يحدث ومتي.انقضٌّ علي المشهد الشعري بحياء عذراء وقوة طاغية، بلا نظرية وبلا وزن وقافية. جاء بنص ساخن ومختلف لا يسميه نثرا ولا شعرا، فشهق الجميع: هذا شعر. لأن قوة الشعرية فيه وغرائبية الصور المشعة فيه، وعناق الخاص والعام فيه، وفرادة الهامشي فيه، وخلوه من تقاليد النظم المتأصلة فينا، قد أرغمنا علي اعادة النظر في مفهوم الشعر الذي لا يستقر علي حال، لأن جدة الإبداع تدفع النظرية الي الشك بيقينها الجام


حوار معه

يشبه نفسه بشكل مدهش: في الحياة كما في القصيدة. تسأله عن ذاته فيحيلك إلى الجماعة. تضعه في مواجهة الجماهير، فيستلّ ذاتيّته جسراً أكيداً للتواصل، خارج راهنيّة القصيدة التي «تعاند الزمن»…
محمود درويش الذي يدعو معاصريه إلى التغلّب على هوس الشاعر الأول، أو الشاعر الأوحد، خصّ «الأخبار» بحديث مسهب في شؤون القصيدة وشجون صاحبها الواقف «في حضرة الغياب»
«يا أهل لبنان الوداعا» هذا ما قاله محمود درويش، قبل 25 سنة، في قصيدته الشهيرة «مديح الظل العالي». لكنه عاد أكثر من مرة إلى بيروت ليلتقي جمهوره وأصدقاءه. سلك طرقاً مختلفة وغيّر وجهة سير قصيدته أكثر من مرة. انخفض الصوت العالي في نبرته. تخفّف شعره من حمولات رمزية ونضالية مباشرة. صاحب «أحمد العربي» و«جواز سفر» صار يكتب «بقايا كلام على مقعدين» و«ورد أقل». «الأخبار» التقت درويش بعد الأمسية التي أحياها في «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» قبل أسبوعين
* تقديمك في الأمسيات الشعريّة قد يخلق بعد التشوّش لدى الجمهور… ما يلزمك بمهمّة رفع سوء التفاهم
يفترض بالمقدم أن يمهّد للعلاقة الحميمة التي سيخلقها الشاعر مع جمهوره. بعض المقدّمين ينجح في هذا، وأحياناً أشعر بأنه قال كلاماً مهماً في شعري. لكن ما يسيء إليّ هو أن يحدد المقدم صورة مسبقة، أو قراءة نمطية للشاعر. أقدم أحياناً كشاعر قضية، وأنا أقوم بقراءة شعر مخالف لهذه الصورة. أعتقد أن الجمهور لم يعد يكترث بالمقدمات. بوسع الشاعر بسرعة أن يزيل سوء التفاهم الذي قد تخلقه المداخلات السابقة لاعتلاء المنبر. لكنني ممتن دائماً لمن يقدمني، سواء أفرط في
التأويل السياسي أو أفرط في التأويل الجمالي، وفي اعتقاده أنه يحسن فعلا .
* يتعامل معك كثيرون كشخصية اعتبارية، لا كشاعر أو كإنسان عادي… هل تعاني من هذا الأمر ؟
نعم، أعترف بذلك. غالباً ما أُقَدَّم محاطاً بعوامل تاريخية وخارجية وسياسية مرهقة. كأني ممثل أخلاقي أو سياسي لقضية اتفقنا على تسميتها بالمقدسة. هنا الشاعر الذي في داخلي يشعر بالقلق. فأنا ليس لدي أجوبة ولا أحمل مشروعاً سياسياً، ولا أنطق ــــ شعرياً على الأقل ــــ باسم جماعة، وإن كان هذا المستوى موجوداً في الخلفية الشعريّة. لذا أحاول التخفيف من ضغط تلك الحمولة الرمزية: لا بدّ من تناول شعري بشروطه الجمالية العامة، لا بخصوصية انتماء صاحبه. أطالب بأن أعامل كشاعر لا كمواطن فلسطيني يكتب الشعر. تعبت من القول إن الهويّة الفلسطينية ليست مهنة. قد يتكلم الشعر عن قضايا كبرى، لكن علينا أن نحاكمه بخصائصه الشعرية، وليس بالموضوع الذي يتكلم عنه. الشعر يُعرّف جمالياً لا بمضمونه، وإذا تطابق الاثنان فإن ذلك جيد.
* في أعمالك الجديدة نلحظ خفوتاً في النبرة. كأن القصيدة مكتوبة بحميمية ولأشخاص قليلين. هل تحس بأن تلك النبرة لم تعد مناسبة لجمهور كبير؟
أبداً، لأن هؤلاء الآلاف مكونون من ذوات صغيرة. ليس من حقنا أن نعامل الجالسين في القاعة على أنهم كتلة مجرّدة من الخصائص الفردية. عندما أكتب عن ذاتي، أحس بقدرة مخاطبة أقوى مما لو كنت ألقي قصيدة حماسية أفترض فيها أن الكل يجتمع في واحد. عندما أكشف ذاتي الشعرية، أشعر براحة أكبر، وأحس بأني أقترب أكثر من مفهوم الشعر، وأقترب أكثر من مزاجي الشخصي أمام هؤلاء الآلاف، كل على حدة، ومجتمعين معاً. أعتقد أن الشاعر هو الذي يضبط إيقاع القاعة. أنا لا أذهب إلى هموم شخصية أو تفاصيل لا تعني الآخرين. تبدو القصيدة مجرد لعبة تقوم على تقشف بلاغي ماكر، لكن هناك دائماً معنى متخفٍّ وراء هذا اللعب. ما يبدو أحياناً مجانياً في النص ليس كذلك. العلاقات بين عناصر القصيدة محكومة بذكاء الشاعر في البحث عن معنى للوجود والحياة.
* هل عطّل حضورك الاعتباري أي قراءة نقديّة لشعرك؟
بصراحة، أنا أشكو من الإفراط في التأويل السياسي لشعري، على حساب الانتباه إلى المسألة الجمالية التي ينبغي للنقد أن ينشغل بها أكثر من خطاب القصيدة. لا يغضبني ناقد يشير إلى عناصر سلبية في شعري، بقدر ما يغضبني غضّ الطرف عما ينبغي أن يُقرأ في شعري: ماذا أضاف؟ وما هي مكانته في الشعر العربي الحديث؟ وغيرها من الأسئلة التي أرجو أن يساعدني النقد على معرفة نفسي من خلالها. أشكو أيضاً من تصنيفي وطنياً لا شعرياً. إذا كنت «شاعراً فلسطينياً»، فإنك لا تكتب سوى موضوع واحد هو فلسطين، ونصك مقروء مسبقاً حتى قبل أن تكتبه. لا يطلب الناقد شيئاً محدداً من الشاعر السوري أو العراقي أو المصري، أما عندما يصل إلى الشاعر الفلسطيني فيقرر ما ينبغي عليه أن يكتبه
* حين قدّمك أدونيس في فرانكفورت، قلت إنها المرة الأولى التي تسمع فيها رأيه في شعرك… أليس هذا غريباً؟
أدونيس وأنا قضينا سنوات طويلة معاً. وكانت صداقتنا يومية، ولياقة كل واحد منا كانت تمنعه من إبداء رأيه في الآخر، وهو رأي إيجابي على أي حال. عندما قدمني أمام جمهور ألماني، حيّاني، فرددت له التحية. لكن بشكل عام هناك حزبية في الحياة الشعريّة العربية. يعني إذا كنت تحب نتاج شاعر معين، فعليك أن ترفض نتاج شاعر آخر! أنا لا أحب الشعر الذي يشبه شعري. هناك شعراء يشجعون من يقلدهم ويؤسسون أحزاباً. أعتقد أن المسألة أخلاقية، وتتعلق بقدرة كل واحد منا على الاعتراف بحرية الاختيار، وتعدد الخيارات الموجودة. علينا أن نتخلص من مفهوم الشاعر الأول، أو الشاعر الأوحد. ويجب أن نفعل ذلك في السياسة أيضاً. لا يستطيع طائر واحد أن يحتكر السماء. المشهد الشعري العربي يتسع للتعدد والتجاور والتعايش. هذا ما يصنع تنوعه وغناه. من العبث فرض تيار شعري. لكن العلاقات بين الشعراء العرب ليست صحية للأسف. النميمة أصبحت سمة الثقافة السائدة.
* هل تحس بأن الجملة التي بدأت بها لم تتغير في الجوهر، وأن مكونها الإيقاعي أو الوجداني واللغوي بقي على حاله؟
هذا سؤال صعب. على الشاعر أن يراقب نفسه. أن يكون حذراً من هيمنة مفردات وجمل على تجربته الشعرية. عليه أن ينظف، إذا جاز التعبير، نصه الشعري من تكرار نمطي لا يشكل بالضرورة ملامح قوية في شعره. في لاوعيه اللغوي والبلاغي والاستعاري، قد تكون تسيطر جملة إيقاعية على مسيرة الشاعر. عندما ألاحظ أن هذه الجملة موجودة، أجري عليها تعديلات أو ألغيها. لكن قد لا ألاحظ ذلك، فتبقى تلك الجملة ملازمة لي .
* جملة الشاعر الأولى بمثابة جلد له. وهذا البيان الشخصي يبقى، مهما طرأ على نصّه من تطورات وانعطافات…
إذا نظرنا من هذه الزاوية، هذه ملامح لا تُحذف ولا يجب أن تُحذف. هذا وجهك الشعري أو بصمتك، ومن المستحيل أن تغير سمات البصمة. أعتقد أن الشاعر الذي تُعرف قصيدته من دون أن يوقعها يكون قد كوّن ملامح هوية شعرية خاصة، من دون أن يكرر نفسه. أتحدث هنا عن نَفَس الشاعر وإيقاعه. لكنني لا أعرف إذا كان أمراً جيداً أن يتعرف القارئ إلى قصيدة من دون أن يعرف اسم كاتبها، لكن عكس ذلك يقودنا إلى استخدام أقنعة. أنا أفضل وجهي على القناع، لكن هذا الوجه، أو هذه الأنا، تجري عليها تحولات دائمة من دون أن تصبح عكس ما هي
* قلت مرة إنك تحاول كتابة قصيدة نثر بالوزن. هل تظن أن الفرق بين القصيدتين هو الإيقاع والوزن فقط؟ هل كتابة قصيدة نثر ممكنة بمواد ومكونات إيقاعية؟
الشعر طبعاً يصعب تعريفه. لكن هناك ثوابت في تعريفه مثل الإيقاع. الإيقاع ليس الوزن، بل هو طريقة تنفس الشاعر وموسيقاه الداخلية. الإيقاع ليس حكراً على الوزن. وقد يتأتى من العلاقات بين الحروف والكلمات والدلالات حتى في نص نثري. لذلك لا نستطيع كتابة قصيدة نثر موزونة. خلافي ليس مع قصيدة النثر التي أحبها كثيراً، خلافي هو مع الادعاءات النظرية التي تقول إنه لا شعر ولا حداثة خارج قصيدة النثر. يُقال إن قصيدة النثر مشغولة بالتفصيلي والهامشي واليومي. هذا لا يكفي لتعريف قصيدة النثر، لأن هذا قد يُكتب إيقاعياً وبالوزن التقليدي أيضاً. هذا ما قصدته حين قلت إني أستطيع أن أستوعب خطاب قصيدة النثر في قصيدتي الموزونة. وبالمناسبة هناك سوء فهم لموقفي من قصيدة النثر. أنا من أكثر المعجبين بها، وإن كنت أختلف على المصطلح. أنا أفضِّل أن أقول «القصيدة النثرية» كما أرفض مصطلح «قصيدة التفعيلة» وأفضل عليه تسمية «القصيدة الحرة». للأسف تكرست هذه المصطلحات. تعريف الشعر بات أكثر صعوبة اليوم. فالشعر قد يتسع للسردي والنثري والموسيقي. بعض الشعراء وجد كتابي الأخير «في حضرة الغياب» قصيدة نثر طويلة. هذا يفرحني
* ردّدت مراراً أنك تتمنّى حذف جزء كبير من قصائدك القديمة. ماذا يمكن أن تقول عن أعمالك الحالية بعد عشرين سنة؟ أين منطقة الرضا إذاً؟
هناك شيء واضح بالنسبة إليّ، وهو أني لن أبلغ منطقة الرضا. أنا شديد التطلب وملول من المنجز. وأشعر، صادقاً، بأني لم أصل إلى حدود ما يسمى الشعر الصافي. الشعر الصافي مستحيل، لكن علينا أن نغذي أنفسنا بوهم وجوده. الشعر الصافي متحرر من تاريخيته ومن ضغط الراهن، أي إنه يعاند الزمن. لكنّنا ما زلنا نقرأ، بكامل المتعة، الكثير من الشعر العظيم الذي كُتب في لحظة زمنية عن واقع معين. التاريخ والواقع ليسا، على ما أظن، عبئاً على صفاء الشعر الذي يأتي من طين الحياة، لا من أزهار الفل. الشعر الجيّد يعيش خارج شروطه الزمنية. حين نقرأ هوميروس هل نقرأه في حرب محددة وزمن محدد؟
*… في نصوصك الأخيرة هناك حضور شديد للموت والغياب
أنا أتقدم في السن. لكن من حقي أن أقول إن الحديث عن التقدم في السن يتم بلغة فتية. هناك شعرية فتية في اقترابي من الموت. أليس كذلك؟
*. أظن أن جزءاً من عافيتك الشعرية يعود إلى تحديك المتواصل لنبرتك وعبارتك
أي شاعر يجلس إلى نفسه، ولا يشعر أنه تافه… لن يكتب شعراً مهمّاً. أن تحس بأنك لم تكتب شيئاً ولم تحقق شيئاً هو الحافز الدائم للكتابة. هذه هي ورطة الشعر. أنا أشعر بأني لم أكتب شيئاً. أحاول أن أصحّح ما فعله الزمن بي، وما لم أفعله في الشعر.
… تقول «في بيت ريتسوس»: «ما الشعر في آخر الأمر؟». أريد أن أعرف الجواب منك
الجواب كما جاء في القصيدة ذاتها: «هو الحدث الغامض الذي يجعل الشيء طيفاً / ويجعل الطيف شيئاً / ولكنه قد يفسّر حاجتنا لاقتسام الجمال العمومي». ريتسوس قال «الحدث الغامض»، الباقي من تأليفي.