الأربعاء، 28 مارس 2012

بمناسبة يوم الارض لفلسطين حبيبتنا نعيد نشر ما يجب الاننساه


كنت في السادسة من عمري عندما رحلت نحو ما لم أكن أعرف. في ذلك اليوم، إنتصر جيش عصري على طفولة لم تكن تعرف من الغرب بعد إلا عطر البحر المالح وذهب الغروب فوق حقول القمح. دافعنا وقتها عن العلاقة الهادئة السرمدية التي تربط الفلاحين الطيبين بالأرض الوحيدة التي عرفوها، الأرض التي ولدوا عليها
لم تتحول السكك والمحاريث إلى سيوف إلا في قصص الأنبياء. أما سككنا نحن فتكسّرت أمام طائرات ودبابات الغرباء الذين شرّعوا بهذه الطريقة حكاية حنينهم الطويل إلى “أرض الميعاد”. لقد تغذّى الكتاب على القوة وكانت القوة بحاجة إلى كتاب
منذ اليوم الأول رافق الصراع من أجل الأرض غزو للماضي وللرموز. ولبست صورة داود درع جليات، وأمسكت صورة جليات بنقّيفة (مقلاع) داود. ولكن الطفل الذي كنته لم يكن بحاجة إلى من يقص عليه التاريخ كي يعرف طريق الأقدار المجهولة التي دشنت هذه الليلة الرحبة الممتدة بين قرية جليلية وشمال مضاء بقمر بدوي معلق فوق الجبال.
في هذا اليوم، اقتُلع شعب من حاضره الحميم، وفُصل بينه وبين خبزه الطازج كي يتردّى في ماضٍ آت. هناك، في جنوب لبنان، نُصبت لنا خيم هشّة وتغيرت أسماؤنا. ختمونا بنفس الختم فأضعنا تمايزنا وأصبحنا كلنا “لاجئين”
- ما هو اللاجيء يا أبي؟
- لا شيء، لا شيء، لن تفهم …
- ماذا يعني أن تكون لاجئاً يا جدي؟ أريد أن أعرف …
- أن تكون لاجئاً يعني أن لا تكون طفلاً من الآن فصاعداً …
لم أعد طفلاً منذ قليل. منذ أن استطعت تمييز الحقيقة من الحلم، ومنذ أن قدرت على التفريق بين ما يحدث وبين ما حدث منذ سويعات. هل يتحطم الوقت مثل الزجاج ؟
لم أعد طفلاً منذ أن عرفت بأن مخيمات اللاجئين في لبنان هي الحقيقة وأن فلسطين، من الآن فصاعداً، سوف تسكن الحلم.
لم أعد طفلاً منذ أن جرحني ناي الحنين، منذ أن كان القمر يكبر فوق أغصان الشجر وأنا تسكنني رسائل العتمة؛ رسائل إلى البيت المربع وشجرة التوت العالية والحصان العصبي والحمام البري والآبار … رسائل إلى خلايا النحل التي كان عسلها يجرحني إلى دربي العشب اللذين يقودان إلى المدرسة وإلى الكنيسة…
- هل وضعنا هذا سوف يطول يا جدي ؟
لم أتعلم كلمة “منفى” إلا عندما صارت مرادفاتي أكثر ثراء، فكلمة العودة هي الخبز اليومي للغتنا؛ عودة إلى المكان، عودة إلى الزمان، عودة من المتنقل المتحرك إلى الثابت، وعودة من الحاضر إلى الماضي والمستقبل في آن. عودة من الاستثناء إلى القاعدة، من خلية في سجن إلى بيت من حجر. هكذا أصبحت فلسطين كل ما لم تكن؛ فردوساً مفتوحاً حتى ذلك اليوم الذي تسللنا فيه إلى داخلها من جديد.
يومذاك وجدنا بأن البلدوزارات الإسرائيلية كانت قد محت آثارنا فلم نعثر على أي شيء من ماضينا. حضورنا أصبح منذها جزءاً من آثار الرومان. حرمت علينا الزيارة واكتشف الطفل “أدوات الغياب العتيدة” وطريقاً مشرعاً نحو الجحيم، فهذا كل ما بقي من فردوسه المفقود.
……………………….
لم تكن بي حاجة لأن يقصّوا علي تاريخي.
لقد عادت المخرجة “سيمون بيطون” إلى مسقط رأسي بعد 50 سنة كي تصوّر بئري الأولى وأول روافد لغتي، فاصطدمت برفض القاطنين الجدد للمكان وسجلت هذا الحوار مع المسؤول عن المستعمرة الإسرائيلية:
- هنا ولد الشاعر …
- وأنا أيضاً ولدت هنا … عندما جاء أبي إلى هنا لم يجد إلا الأنقاض. أقمنا أولاً في الخيام ثم في بيوت حقيرة. لقد عملت طيلة عشرين سنة قبل أن أستطيع بناء هذا المنزل. فهل تريدينني أن أعطيه له؟
- أريد أن أصوّر الأنقاض فقط، ما تبقى من بيته. إنه بعمر أبيك، أولا تخجل من أن ترد هكذا ؟
- لا تكوني ساذجة. إنه يطالب بحق العودة.
- هل تخاف من أن يحصل على حق العودة ؟
- نعم …
- ويطردك كما طردته؟
- أنا لم أطرد أحداً … لقد أتو بنا في سيارات نقل كبيرة ثم أنزلونا هنا وتركونا لأنفسنا.
- ولكن من هو هذا “الدرويش”؟
- رجل يكتب حول هذا المكان… حول التينات البرية هذه … حول هذه الأشجار وهذه البئر.
- أي بئر؟
- هناك 8 آبار في البلدة … كم كان عمره ؟
- 6 سنوات …
- والكنيسة، هل كتب عن الكنيسة ؟ …. كان هنا كنيسة ولكنها دمرت. وحدها المدرسة تركوها كي تأوي إليها الأبقار والعجول.
- حولتم المدرسة إسطبلاً ؟
- ولم لا؟
- صحيح، بعد كل ما جرى، لم لا ؟!!! … كان لديهم حصان أيضاً ، ولكن … هل أشجار الفاكهة ما زالت هنا؟
- طبعاً … عندما كنا صغاراً كنا نأكل من ثمارها … تيناً وتوتاً وكل ما خلق الله .. هذه الأشجار هي طفولتي!!!
- وطفولته هو أيضاً …
هذه الأرض لم تكن صحراء إذاًَ، ولم تكن خالية من السكان. هناك طفل يولد في مهد طفل آخر. يشرب حليبه، يأكل توته وتينه، ويعيش مكانه مرتعداً من عودته دون ندم يذكر، ثم يقول لنفسه بأن هذه الجرائم التي ارتكبها الآخرون هي أيضاً من صنع القضاء والقدر. هل يستطيع مكان واحد أن يتسع لحياة مشتركة؟ هل يستطيع حلمان أن يتحركا بحرية تحت نفس السماء؟ هل يستطيعان ذلك دون أن يكون على الطفل الأول أن يكبر بعيداً وحيداً محروماً من الوطن والمنفى لأنه عندما لا يكون هنا فهو ليس هناك أيضاً ؟
مات جدي كمداً وهو يرى الآخرين يعيشون حياته. مات وهو يتأمل الأرض التي سقاها يوماً دموع جسده وهو ينتوي أن يخلفها لأولاده من بعده. رائحة الجغرافيا المهشمة فوق حطام الزمان قتلته، فحق العودة من رصيف على شارع إلى رصيف على شارع آخر يقتضي ألفي سنة من الغياب؛ هذا هو الشرط كي تنتسب الأسطورة إلى الحداثة.
بالنسبة لي، سعيت نحو التآخي بين الشعوب، عبر حوار مفتوح في غرفة السجن مع سجّان لا يتخلى عن قناعته بغيابي.
- من تحرس إذاً ؟
- نفسي القلقة.
- ما الذي يقلقك أيها السيد الطيب ؟
- شبح يطاردني ويصبح أكثر حضوراً في كل مرة أنتصر بها عليه.
- لا شك بأن الشبح هو آثار الضحية على الأرض.
- ليس هناك من ضحايا غيري، أنا هو الضحية.
- ولكنك القوي القادر والسجّان. لماذا إذاً تنازع الضحية المكان؟
- كي أبرّر أفعالي … كي أكون على حق دائماً. كي أصل مرتبة القداسة وكي أفرّ من النوم.
- لماذا تسجنني إذاً ؟ هل تظن بانني الشبح ؟
- ليس بالضبط، ولكنك تحمل اسمه …
لعل الشعر مثل الحلم، لا يكذب ولكنه لا يقول الحقيقة. لعل الشعر، هذا الجنون الذي يشير إلى العناصر الأولية، ليس إلا ذاكرة الأسماء. لعله ليس لعبة بريئة إلا للذي يضع وجوده في المتراس خلف المكان المصادر والذاكرة المصادرة والتاريخ والأسطورة. لا، الشعر ليس لعبة بريئة لأنه يدل على كائن يجب ألا يكون موجوداً، ولكن المنفى يكبر أيضاً مثل الأعشاب البرية في ظل أشجار الزيتون. على العصفور إذاً أن يحقق اللقاء بين السماء البعيدة وأرض طردت منها فضائلها السماوية. نادرة هي البقاع التي تتمتع بوفر في الجمال كذلك الذي تبوح به أرضنا، أرضنا غير القادرة على إحداث القطيعة الضرورية بين الحقيقة والأسطورة. ليس من حجر هنا، ليس من شجرة لا تحكي تاريخ المواجهة بين المكان والزمن، وإحساسي بعدم رسوخ قدم الغريب يتزايد كلما تزايد الجمال ورسخت قدمه وكنت أنا الحاضر والغائب؛ نصف مواطن ولاجيء كامل.
أبذر شوارع حيفا على خاصرة الكرمل بين الأرض والبحر وأتشوق لحرية لا تتيحها لي سوى القصيدة التي سوف يسجنوني من أجلها.
عشر سنوات … عشر سنوات لا أستطيع بها الخروج من حيفا. ومنذ سنة 1967، منذ أن اتسعت رقعة الاحتلال الاسرائيلي أكثر، فرضوا علي عدم مبارحة غرفتي من غروب الشمس حتى مشرقها، وتسجيل حضوري في قسم الشرطة كل يوم في الساعة الرابعة بعد الظهر.
صادروا ليالي ولم يبقوا بها من خصوصية. كانت الشرطة تقرع بابي في أي وقت تريد كي تتأكد من تواجدي في البيت. لكني لم أكن حاضراً، لقد كنت مجبراً حقاً أن أمضي تدريجياً إلى المنفى منذ أن تداخلت حدود الوطن والغياب في ضباب الشعور. كنت أعلم بأن اللغة قادرة على أن تبني ما تهدم وأن تجمع ما تفرق. وليس من شك بأن “هنا” الشعر، في مرحلة نضجها بين الأفق والسلاسل، كانت بحاجة لتوسيع البعيد.
المسافة بين المنفى الداخلي والمنفى الخارجي لم تكن مرئية. كانت جزءاً من الصورة عندما كان معنى الوطن أصغر من حجمه. وفي المنفى الخارجي استوعبت كم كنت قريباً من البعيد، كم كان “هناك” “هنا”.
لم يعد ثمة شيء فردي، فكل شيء يشير إلى المجموع وليس هناك من مجموع، فكل شيء ينحو نحو الحميمية. امتدت رحلتي على طرقات متعددة حملتها على أكتافي مراراً، وهويتي الممنوعة التي تمردت على أي تقليص “للمنفى والعودة” ،كانت في أزمة. لم نعد نعلم من منا الذي هاجر، نحن أم الوطن. والوطن الذي اختار مسكنه فينا رأى صورته تتطور مع نضوج عكسه الذي يخاصمه. كل شيء يُفسّر بعكسه، والنرجس المجروح سوف ينبت بكثرة وعفوية فوق جوانب الطريق.
أخذت اللغة مكان الحقيقة، ورحلت القصيدة في البحث عن أسطورتها عبر تراث الإنسانية، واندمج “المنفى” في أدب التيه، لا ليعطي نار المأساة الشخصية مشروعية ولكن كي يلحق بالإنساني. وهنا لاحقنا الإسرائيليون بزعمهم أنهم وحدهم المنفيون العائدون بينما الفلسطينيون الذين لاقوا مزابل الأرض العربية لا يعانون من منفى. هكذا حُرمت الضحية مرة أخرى من اسمها.
كانت الضحية الوحيدة تمتلك حق خلق ضحيتها الخاصة وأوجد المنفىّ الوحيد منفيّه الخاص.
سوف أجد الفرصة بعد ربع قرن كي أشاهد جزءاً من وطني. غزّة التي لا أعرفها إلا من خلال قصائد “معين بسيسو” الذي صنع منها جنته.
الطريق التي توصل إلى غزّة عبر الصحراء تُغرق المسافر في وحدة لا يقطعها بين الفينة والفينة إلا بعض النباتات الصحراوية، وشجر النخيل الملتهب، ونصب تذكاري مصنوع من هيكل دبّابة، والبحر عن يسارك.
أحاسيسي في ذلك اليوم تنقلت بين البرود العقلاني والارتباك الذي يدرك الفرق بين الطريق وبين هدف الطريق. في العريش أصبح النخل بستاناً على حين غرة، فعرفت بأنني أقترب من هذا المجهول الذي تمنيت أن يبقى مجهولاً. حينها بدأ قلبي يفلت من عقلي وقلت: لنسارع، لنسارع كي نصل قبل المغيب.
- صبراً، صبراً … أجابني وزير الثقافة ورفيقي في الرحلة. صبراً، الوطن على قاب قوسين أو أدنى، والوطن ليس شيئاً غير خفق فؤادك وتوجساتك.
قلت: لعله ليس إلا هذه الليلة التي يحضّر فيها الحلم نفسه كي يتحقق .
لا أحلم بشيء. هنا تبدأ فلسطين الجديدة. حاجز إسرائيلي، سيارة “جيب” عسكرية، علم وجندي يسأل السائق بعربية رخوة: من تقلّ؟
- وزير وشاعر.
أحاذر أن أنظر إلى كاميرات المصورين الباحثة عن فرحة العائدين. كشافات المستوطنات الضوئية واستحكامات الجنود على جانبي الطريق تحرقني، وعندما أعلن عن دهشتي للبتر الجغرافي والخلط الذي يعتور صورة المكان، ينتظر تساؤلاتي جواب حاضر جاهز يقول: غزة وأريحا أولاً، نحن ما زلنا في أول الطريق، في بداية الأمل.
لم يكن مسموحاً لي أن أذهب إلى أريحا، فهل كان لي أن أحلم برؤية الجليل، هويتي الشخصية، من جديد ؟
- “يشترط الإسرائيليون عليك لزيارة الجليل شروطاً أخجل من أن أذكرها لك”
هذا ما قاله لي صديقي الكاتب ” إميل حبيبي ” الذي لم يكن يعلم بأنه سوف يقضي بعد سنتين، وبأن دفنه سوف يعطيني فرصة حزينة لفرحة قصيرة في ربوع فلسطين. يومها أعطوني تصريحاً بالإقامة ثلاثة أيام كي أؤبن صديقي الراحل وألاقي بيت أمي. يومها أكلتني نار العودة وقلت: من هنا خرجت وإلى هنا أعود. ثم رأيت كيف يستطيع الإنسان أن يولد مرة ثانية، وكان المكان قصيدتي.
لم يكن ينقصني شيئاً في نوبة هذه الولادة الجديدة كي أحقق موتي الموعود. ولكني كنت أعلم بأن الحقيقة التي تعرّت من الأسطورة ما تزال بحاجة للماضي وبأن التحرر من الأسطورة ما يزال بحاجة للمستقبل. أما الحاضر فلم يكن إلا زيارة قصيرة يعود بعدها الزائر كي يرحل نحو توازنه الصعب بين منفى مكره عليه ووطن بأمس الحاجة إليه. هنا لا يعارض المنفى الوطن، ولا يكون الوطن عكس المنفى.
لم أعد بعد، والطريق لما تنته بعد كي أعلن عن بداية الرحلة ….
________________________
- المصدر: مقال كتبه الشاعر الفلسطيني “محمود درويش” لمجلة
GEO الفرنسية. عدد 243 أيارمايو
طوال سنة، بدءاً من فصل الشتاء وانتهاء بالخريف المقبل تحيي باريس ومدينة الهافر الفرنسية احتفالاً بالشاعر محمود درويش بعنوان “فصل شعري”، وقد بدأ قبل أيام. والاحتفال تنظمه ثلاث مؤسسات: إذاعة “فرانس كولتور” ودار “أكت سود” ومجلة “Les Inrockuptibles”.

الليلة الأولى كانت في مدينة الهافر عبارة عن قراءة شعرية في مسرحلو فولكان” بين محمود درويش والممثل ديديان ساندر، بالعربية والفرنسية، وبثتها إذاعة “فرانس كولتوV” مباشرة. وامتلأت القاعة التي تتسع لـ 1200 شخص بجمهور فرنسي أصغى الى قصائد درويش بالصوتين العربي والفرنسي.
الليلة الثانية كان عنوانها “ليل بابل الشعري” وشارك فيها نحو ستين شخصاً من الجمهور قرأوا قصائد مترجمة لمحمود درويش وقصائد لشعراء سمّاهم درويش نفسه وهم الأقرب الى قلبه ومنهم: سان جون بيرس، يانيس ريتسوس، بابلو نيرودا، أوجينيو مونتالي،وليم بتلر ييتس وفدريكو غارسيا لوركا. وقرئت قصائد هؤلاء الشعراء بلغاتهم الأم. وقدّم بعض الحاضرين قصائد كتبوها للمناسبة، مهداة الى الشاعر درويش. وقدم البعض أغنيات ومقطوعات موسيقية. وامتدت الأمسية من السابعة مساء الى الثانية عشرة ليلاً. وتخلل الأمسية حفل موسيقي أحياه موريس المديوني.
وتكررت الأمسية نفسها في الليلة الثالثة وأدت المغنية دومنيك دوفال قصيدة “أحد عشر كوكباً” بالفرنسية على موسيقى الجاز التي وضعها فيليب لا كاريير.
أما في باريس فأحيا درويش أمسية في “ريد هول” في جامعة كاليفورنيا - باريس وقرأ بالمشاركة مع الممثل ديديان ساندر مختارات من شعره بالعربية والفرنسية. وأعقب القراءات حوار مفتوح مع الجمهور.
وفي أيار (مايو) المقبل تقدم قصيدة “جدارية” في عرض مسرحي من إخراج وسام أرباش مع ممثلين فرنسيين في مسرح “لوفولكان” (الهافر) ثم تنتقل الى باريس لتقدم على الأرجح في مسرح “الأوديون“.
وتقام خلال الشهر نفسه أمسيات شعرية أخرى عنوان إحداها “شاعر طروادي” وهي تنطلق من قصائد للشاعر درويش بالفرنسية يخرجها ألان ميليانتي. ومن الأمسيات واحدة بعنوان “يطير الحمام ويحطّ الحمام” مع مقاطع من “نشيد الأناشيد”، مع موسيقى وضعها الموسيقار رودولف بيرغر. وتغني خلال الأمسية دومنيك دوفال قصيدة “خطبة الهندي الأحمر الأخيرة“.
وتتوالى الأمسيات لاحقاً خلال الخريف المقبل ومنها: أمسية موسيقية يحييها الفنان مارسيل خليفة ويقدم فيها مقطوعات مستوحاة من شعر درويش في مناسبة مرور ثلاثين سنة على التجربة المشتركة بين الشاعر والموسيقار المغني، أمسية يقرأ فيها درويش قصائد للشاعر العربي الكبير المتنبي بالعربية ويرافقه ممثل يقرأ القصائد نفسها بالفرنسية، أمسية يحييها “الثلاثي جبران” وهي فرقة فلسطينية شهيرة، وأمسية للمغنية المغربية عائشة رضوان.
وفي مناسبة صدور ديوان “لا تعتذر عمّا فعلت” لدرويش بالفرنسية عن دار “أكت سود” في ترجمة الياس صنبر احتفى الإعلام بالشاعر وكتبت عن الديوان مقالات عدة. وأجرت مجلة “لو نوفيل أوبسرفاتوار” حواراً معه وكذلك صحيفة “لوموند” مخصصة له صفحة كاملة في العدد المزدوج الأحد - الاثنين الفائتين.
هنا مقتطفات من حوار درويش مع “لوموند”وقد أجرته سيلفان سيبيل.
عن رأيه في مسألة الرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها إحدى الصحف الدنماركية يقول: “هذا جنون يملأني أسى. في البداية، كاريكاتور النبي محمّد (صلى الله عليه وسلم) وعلى رأسه قنبلة عوضاً عن العمامة أمر مهين. يجب حماية حرية الصحافة ولكن ليس حقّ الإهانة. إذ لا يمكن إهانة معتقدات الآخرين بلا طائل. ففي فرنسا، الصحافة حرة، ولكن توجد قوانين تعاقب التعبير العلني عن العنصرية. وفي الجو العالمي الخانق الذي نعيش فيه، يجب احترام رفض المسلمين لرسم تصوّرات للنبي محمد. وفي الوقت عينه، المشكلة هي أنّ الرأي العربي والمسلم لا يشكّل فرقاً بين الشعوب في تنوّعها والحكومات. فهو يرى كلّ شيء في كتلة واحدة. والتحجّج برسم لحرق السفارات جنون أيضاً. فمن الجهتين، تتنافس قوى لمفاقمة صدام الهويّات. سيمرّ ذلك يوماً ما، إنها مرحلة موقتة. لكن بانتظار ذلك، تسيطر هذه القوى“.
وعن قضية “حماس” التي وصلت الى السلطة يقول: “لنقرّ أولاً أن تغيير نظام الحكم جرى في طريقة ديموقراطية جداً. وهذا أمر إيجابي في العادات السياسية في المجتمع الفلسطيني. وبحلول ذلك، تحمّل إسرائيل مسؤولية كبيرة. فقد نشرت مناخاً من عدم الشرعية للسلطة الفلسطينية مهدّ الطريق لـ “حماس”. فضلاً عن سياستها التي تجعل الحياة الفلسطينية اليومية غير ممكنة. وساهم تجاهل السلطة في توليد مناخ ضار، ما دفع بالكثيرين إلى التفكير قائلين: “لماذا لا نجرّب طريقاً أخرى؟ لا يمكن أن يكون الوضع أسوأ.” كان التصويت لـ “حماس” اعتراضياً بقدر ما كان دينياً. والآن علينا العيش مع هذه التجربة. ولكن لا يمكنني إخفاء مخاوفي، فقد أعلن مسؤولون من “حماس” عن نيّتهم في “إعادة تشكيل المجتمع على قاعدة إسلامية.” حين ندافع عن فلسطين علمانية تعددية، لا يمكننا أن نقلق سوى في شأن حقوق المرأة والشباب والحريات الفردية، من دون أن ننسى المكّون المسيحي. آمل أن تنظّم حماس القاعدة التي أوصلتها إلى السلطة وتحترمها، هذه القاعدة التي كانت دوافعها بالإجمال اعتراضية. من ناحية أخرى، سيخدم ذلك كتبرير لأحاديتهم. ولكن إن نووا الحفاظ على مجموعات مستوطناتهم وإعطاءنا بعض القرى كرماً منهم، فهذا يعني أنّهم لا يريدون السلام. وهذا لن ينفع، إلى أن يستوعبوا الواقع: السبيل الوحيد هي بإنهاء الاحتلال“.
وعن تردده في التطرّق الى السياسة يقول درويش: “إنّني أعيش في الحيرة. لا أرفض الكلام في السياسة، ولكن أرفض كل التأكيدات في حاضر مضطرب إلى هذا الحدّ. فأنا لست أكيداً من نظرتي الخاصة. أنا أدمج التعقيد في عملي كشاعر، فكلّ شاعر أو حتى كل كاتب من العالم الثالث يقول إنّه لا يهتمّ بالمجتمع أو السياسة هو كاذب. لست كاذباً حتى الآن. أما للفلسطينيين فالسياسة أمر وجودي، لكن الشعر أكثر حنكة، إذ يسمح بالدوران بين احتمالات عدة. فهو يرتكز على الاستعارة والإيقاع والاهتمام بالرؤية خلف المظاهر. لكن الشعراء لا يديرون العالم، وهذا أفضل، فالفوضى التي يدخلونها قد تكون أسوأ من فوضى السياسيين“.
وتسأله: “في كتابكم الأخير الذي ظهر بالفرنسية، تكتب: “أنا ما سأكون عليه غداً”. هذا شعر مفاجئ من شاعر يعتمد عدم التغيّر”، ويرد: “على العكس، فالحاضر يخنقنا ويمزّق الهويّات. لهذا لن أجد نفسي الحقيقية قبل الغد، حين أتمكّن من قول شيء آخر أو كتابته. فالهوية ليست إرثاً بل تكوين. فهي تكوّننا ونكوّنها باستمرار، ولن نعرفها إلاّ غداً. أنا هويّتي متعدّدة ومختلفة. أنا غائب اليوم وسأكون حاضراً غداً. أحاول تنمية الأمل كما ننمّي الطفل، لكي أكون ما أريده وليس ما يريدونني أن أكون
الحياة
ليس دفاعا عن كتابي الجديد
لستُ من الذين ينظرون إلي المرآة برضا. المرآة هنا هي انكشاف الذات في صورة صارت ملكية عامة… أي صار من حق غيرها أن يبحث عن ملامح ذاته فيها. فإذا وجد فيها ما يشبهه أو يعنيه من تعبير وتصوير، قال: هذا أنا. وإذا لم يعثر علي شراكة في النص / الصورة، أشاح بوجهه قائلاً: لا شأن لي
كما أخشي هذا التعليق الذي صار رائجاً في العلاقة بين الكثير من الشعر الحديث وبين أغلبية القُرَاء، منذ استمرأ الكثيرون من الشعراء توسيع الهُوَة بين القصيدة وكاتبها الثاني: المتلقِي الذي لا يتحقق المشروع الشعري بدونه، وبدون تحركه في اتجاه النص. التُهَمُ متبادلة بين الطرفين. لكن أزمة الشعر، إذا كانت هنالك أَزمة، هي أزمة شعراء. وعلي كل شاعر أن يجتهد في حلِها بطريقته الإبداعية الخاصة
أَعلَمُ أنني سأُتَهم، مرة أخري، بمعاداة شعر الحداثة العربية التي يُعرِفُها العُصَابيُون بمعيارين. الأول: انغلاق الأَنا علي محتوياتها الذاتية دون السماح للداخل بالانفتاح علي الخارج. والثاني: إقصاء الشعر الموزون عن جنَة الحداثة.. فلا حداثة خارج قصيدة النثر. وتلك مقولة تحوَلت عقيدةً يُكَفِرُ مَنْ يقترب من حدودها متسائلاً. وكُلُ مَنْ يُسَائِلُ الحداثة الشعرية عما وصلت إليه يُتَهَم، تلقائياً، بمعاداة قصيدة النثر لم أَكُفَ عن القول إن قصيدة النثر التي يكتبها الموهوبون هي من أَهم منجزات الشعر العربي الحديث، وإنها حقَقت شرعيتها الجمالية من انفتاحها علي العالم، وعلي مختلف الأجناس الأَدبية، لكنها ليست الخيار الشعري الوحيد، وليست الحل النهائي للمسألة الشعرية التي لا حلَ نهائياً لها، فالفضاء الشعري واسع ومفتوح لكل الخيارات التي نعرفها والتي لا نعرفها. ونحن القراء لا نبحث في التجريب الشعري المتعدِد إلاَ عن تحقُق الشعرية في القصيدة، سواء كانت موزونةً أَو نثرية
وأَعلم أَيضاً أَن مجموعتي الشعرية الجديدة، كسابقاتها، ستُزوِد خصومي الكثيرين بمزيد من أَسلحة الاغتيال المعنوي الشائعة في ثقافة الكراهية النشطة. سيُقال ـ كما قيل ويُقال ـ إنني تخليت عن شعر المقاومة . وسأعترف أمام القضاة المتجهمين بأَنني تخلَيت عن كتابة الشعر السياسي المباشر محدود الدلالات، دون أَن أَتخلَي عن مفهوم المقاومة الجمالية بالمعني الواسع للكلمة… لا لأن الظروف تغيَرت، ولأننا انتقلنا “من المقاومة إلي المساومة ، كما يزعم فقهاءُ الحماسة، بل لأن علي الأسلوبية الشعرية أن تتغيَر باستمرار، وعلي الشاعر أن لا يتوقف عن تطوير أَدواته الشعرية، وعن توسيع أُفقه الإنساني، وأن لا يكرِر ما قاله مئات المرات… لئلاَ تصاب اللغة الشعرية بالإرهاق والشيخوخة والنمطية، وتقع في الشَرَك المنصوب لها: أَن تتحجر في القول الواحد المعاد المـُكَرَر. فهل هذا يعني التخلِي عن روح المقاومة في الشعر؟
أَما من دليل آخر علي المقاومة سوي القول مثلاً: سجّل أنا عربي، أو تكرار شعار: سأُقاوم وأُقاوم؟ فليس من الضروري، لا شعرياً ولا عملياً، أن يقول المقاوم إنه يُقاوم، كما ليس من الضروري أن يقول العاشق إنه يعشق. لقد سمَانا غسان كنفاني شعراء مقاومة دون أَن نعلم أَننا شعراء مقاومة. كنا نكتب حياتنا كما نعيشها ونراها. وندوِن أحلامنا بالحرية وإصرارنا علي أن نكون كما نريد. ونكتب قصائد حب للوطن ونساء محدَدات. فليس كل شيء رمزياً. وليس كل ساق شجرة نخيل خصر امرأة أو بالعكسلا يستطيع الشاعر أن يتحرَر من شرطه التاريخي. لكن الشعر يوفِر لنا هامش حرية وتعويضاً مجازياً عن عجزنا عن تغيير الواقع، ويشدنا إلي لغة أَعلي من الشروط التي تُقيِدنا وتُعرقل الانسجام مع وجودنا الإنساني، وقد يُساعدنا علي فهم الذات بتحريرها مما يُعيق تحليقها الحر في فضاء بلا ضفافإن التعبير عن حق الذات في التعرف علي نفسها، وسط الجماعة، هو شكل من أشكال البحث عن حرية الأفراد الذين تتكون منهم الجماعة. ومن هنا، فإن الشعر المعبر عن سِمَاتنا الإنسانية وهمومنا الفردية ـ وهي ليست فردية تماماً ـ في سياق الصراع الطويل، يُمثِل البعد الإنساني الذاتي من فعل المقاومة الشعرية، حتى لو كان شعر حُب أو طبيعة، أو تأمُلاً في وردة، أو خوفاً من موت عادي
ليس صحيحاً أنه ليس من حق الشاعر الفلسطيني أن يجلس علي تلَة ويتأمَل الغروب، وأَن يصغي إلي نداء الجسد أو الناي البعيد، إلا إذا ماتت روحه وروح المكان في روحه، وانقطع حبل السُرَة بينه وبين فطرته الإنسانية
وليس الفلسطيني مهنة أو شعاراً. إنه، في المقام الأول، كائن بشري، يحبُ الحياة وينخطف بزهرة اللوز، ويشعر بالقشعريرة من مطر الخريف الأول، ويُمارس الحب تلبيةً لشهوة الجسد الطبيعة، لا لنداء آخر… وينجب الأطفال للمحافظة علي الاسم والنوع ومواصلة الحياة لا لطلب الموت، إلا إذا أَصبح الموت فيما بعد أفضل من الحياة! وهذا يعني أن الاحتلال الطويل لم ينجح في محو طبيعتنا الإنسانية، ولم يفلح في إخضاع لغتنا وعواطفنا إلي ما يريد لها من الجفاف أمام الحاجز
إن استيعاب الشعر لقوَة الحياة البديهية فينا هو فعل مقاومة، فلماذا نتهم الشعر بالردة إذا تطلَع إلي ما فينا من جماليات حسية وحرية خيال وقاوم البشاعة بالجمال؟ إن الجمال حرية والحرية جمال. وهكذا يكون الشعر المدافع عن الحياة شكلاً من أشكال المقاومة النوعية
هل أتساءل مرة أُخري إن كان الوطن ما زال في حاجة إلي براهين شعرية، وإن كان الشعر ما زال في حاجة إلي براهين وطنية؟ إن علاقة الشعر بالوطن لا تتحدَد بإغراق الشعر بالشعارات والخارطة والرايات. إنها علاقة عضوية لا تحتاج إلي برهان يومي، فهي سليقة ووعي وإرادة. ميراث واختيار. مُعْطيً ومبدع. ولكن الشعر الوطني الرديء يسيء إلي صورة الوطن الذي يشمل الصراع عليه وفيه مستويات إبداعية لم ننتبه إليها دائماً
لذلك، فإن حاجتنا إلي تطوير أشكال التعبير عن الجوانب الإنسانية في حياتنا العامة والخاصة، بتطوير جماليات الشعر، وأَدبية الأدب، وإتقان المهنة الصعبة، والاحتكام إلي المعايير الفنية العامة، لا إلي خصوصية الشرط الفلسطيني فقط، هي مهام وطنية وشعرية معاً، وهي ما يؤهِل شعرنا للوصول إلي منبر الحوار الإبداعي مع العالم، فيصبح الاعتراف بقدرتنا العالية علي الإبداع أحد مصادر الانتباه إلي وطن هذا الإبداع. فكم من بلد أَحببناه، دون أن نعرفه، لأننا أَحببنا أَدبه
هكذا تمحِي الحدود بين وطنية الشعر وبين نزعته الدائمة لاجتياز حواجز الثقافات والهويات، والتحليق المشترك في الأفق الإنساني الرحب، دون أن ننسي أن للشعر دوراً خاصاً في بلورة هوية ثقافية لشعب يُحارب في هويتهنعم، علي الشعراء أن يتذكروا كل العذاب، وأَن يُصْغوا إلي صوت الغياب، وأَن يُسَمُوا كل الأشياء، وأن يخوضوا كل المعارك. ولكن عليهم أيضاً ألا ينسوا واجبهم تجاه مهنتهم. وأَلا ينسوا أن الشعر لا يُعَرَف، أساساً، في ما يقوله، بل بنوعية القول المختلف عن العادي، وألا ينسوا أن الشعر متعة، وصنعة، وجمال. وأَن الشعر فرح غامض بالتغلُب علي الصعوبة والخسارة، وأنه رحلة لا تنتهي إلي البحث عن نفسه في المجهول
وأنا هنا، لا أُدافع عن كتابي الجديد الذي لم يعد لي. ولم أَعد أتذكر شيئاً منه، منذ خرج مني وأَدخلني في مأزق السؤال الفادح: ماذا بعد؟ بل أُدافع عن حق الشعراء في البحث عن شعر جديد، يُنَقِي الشعر مما ليس منه. فإن شقاء التجديد. أَفضل من سعادة التقليد المتحجر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق