الأربعاء، 28 مارس 2012

بمناسبة يوم الارض لفلسطين حبيبتنا

ملف المقالات 2

كتبهامحمد عبيد ، في 14 أغسطس 2008 الساعة: 18:43 م



الآن وأنت مسجّـَـى على صوتك. ونحن من حولك، رجوع الصدى من أقاصيك إليك.
الآن لا نأخذك إلى أي منفى، ولا تأخذنا إلى أي وطن. ففي هذه الأرض من المعاني والجروح ما يجعل الإنسان قديسًا منذ لحظة الولادة، وشهيدًا حيًّا مضرّجًا بشقائق النعمان من الوريد إلى الوريد.
كان لي موعد معك، هنا في ناصرة البشارة والإشارة، فانتعلتُ قلبي وحملت هواجسي في يدي: هل أصل هذه المرَّة إلى جنة الجحيم هذه؟! أم سيعلمني السراب ثانية أن للأرض أرضًا أُخرى قريبة منها وبعيدة؟ ولم تكن أنت ذريعة للنداء. كنت العناق البعيد. أما كان في وسعي أن أجد الإثنين، دليلي وسبيلي؟! أم أن المصائر اعتادت على لعبة الحضور والغياب! على إيقاظ القلب من سكرته: لا تحلم بما لا تستحق. فليس هذا اللقاء سوى وداع.
مَــن يودِّع مَــن، أيها الساحر الساخر من كل شيء؟ ومن وقفتي هذه بالذات؟ فهأنذا أراك تغمز المشهد بنظرتك الشقيّــة، لا لشيء إلا لأنك تعرف نفسك وتعرفنا واحدًا واحدًا منذ أقدم الفاتحين حتى آخر العائدين. وتعرف أن الذات، لا الموضوع، هي ما يجعل المرء يركض من المهد إلى اللّحد بحثًا عن ذاته التي لا تجد ذاتها، إلاّ إذا امتلأت بخارجها. وكم كابدت في هذه الرحلة. كم كابدت كي تجد الأدب هناك في تلك المنطقة المتوتِّرة من السؤال. فكنت كما تريد أن تكون وكما لا تريد. وحيدًا في زحامك ومزدحمًا في وحدتك. ولكن حدود الكون كانت واضحة فيك من غير سوء. هنا على هذه الأرض القديمة الصغيرة يجري الحوار بين الواقعي والخرافي، بين الزمني والروحي، بين النسبي والمطلق، بين الزائل والدائم، بين الحق والباطل، بين الحرب والسلام. وهنا.. هنا البداية وهنا النهاية.
باقٍ في حيفا، حيًّا وحيًّا.
باقٍ في حيفا، هو الإسم الذي سمّــيت به إسمك. لا لتميِّز بين صعود الجبل وبين هبوط الجبل. ولا كي تحدِّد الفارق بين الباقي في منفى هويّته، وبين العائد إلى هويّة منفاه. بل لتفعل فعلتك الخاصة بالأسفار، ولتحفر فوق المخطوطات ما لست في حاجة إلى تأكيده، إلاّ لمواجهة زمن طال فيه الشك شرعية الأُم. حين صار في وسع القوة الواثقة من امتلاك الحاضر، أن تضع الماضي على مائدة التساؤل، لتملي عليك روايتها: حجرًا في مواجهة بشر.
لم يرتكب شعبك من خطيئة سوى إسم هذه الهوية الذي تحفره في قطعة من رخام وفي الذاكرة الجماعية:
باقٍ حيث ولد في المكان الذي واصل فيه سليقة العلاقة العضوية المستمرَّة، وبلا قطيعة، بين الأرض وتاريخها ولغتها. وتابع فيه الإصغاء المرهف بخشوع ومحبَّة إلى كلام السماء إلى الأرض. ليعيش حياته البسيطة قنوعًا بحصته من الماء والهواء والضوء وتبدُّل الفصول والغزوات، لتصبح الأرض التي غابت عنها طبيعتها أرض التعدُّدية والتسامح والسلام.
لقد شاءت طبيعة التطور التاريخي في تقاطع المصائر الإنسانية أن تجعل هذه الأرض المقدسة بلدًا لشعبين، بعدما تعرض شعبها الفلسطيني إلى المصير التراجيدي المعاصر وبذل تضحيات تفوق طاقة البشر لتثبيت هويته الوطنية، وحقه في الإستقلال. وكنت أنت منذ البداية وحتى هذه اللحظة، أحد المنابر المتحرِّكة الأقوى والأعلى، الداعية إلى سلام الشعوب بحق الشعوب. السلام القائم على العدل والمساواة ونفي إحتكار الله والأرض، للوصول إلى المصالحة التاريخية الحقيقية بين الشعبين، مع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
والآن وأنت مسجّــى على هذا المفترق، على لون هذا الغسق الداكن مدمى بالأمل وبخيبة الأمل، باليقين وبالشك معًا، فإن أكثر من جيل واحد من الباقين هنا يعبر عن دَينه لك، للطريقة التي حللت بها جدلية التوتُّر الوجودي والثقافي بين الجنسية والهويّة، بطريقة وحيدة هي البقاء والدفاع عن حقِّهم في المساواة. وإمداد عناصر الهوية بمكوناتها الثقافية، الوطنية والقومية التي لا وجود لهم بدونها.
فطوبى لك أيها المعلم الذي جعل الحنين فاكهة، وسيّـَـج الحيرة بزهرة القندول.
كم أنت يا حبيبي، كم فيك من تناقض هو أحد مرايا تناقضاتنا التي تكسر اللغة من فرط نزوع المأساة إلى ارتداء قناع الملهاة. في كل واحد منّــا واحد منك ونحن جميعًا فيك. وفي كل لحظة من زماننا أكثر من تاريخ يتبّدل قبل أن يمنحنا فرصة للتكيّـُـف أو فرصة للتذكُّــر. تاريخ ينقض علينا كقطار عشوائي، فماذا تفعل في انتحار الرحمة؟ لم تكن السخرية خيارك الأدبي بقدر ما كانت حجتك في وجه هذا العبث، وطريقة في اختيار برج للرصد، ونقطة للوقوف على قدم المساواة مع الخصم ومع القدر معًا.
إذا كنّــا نلعب، فتلك هي شروط اللعبة، لسانًا بلسان، لا طائرة ضد طائر. وفي هذه المنطقة أيضًا يتبطّــن المعنى معنى ثانيًا، ويلجأ الفرد إلى ذاته ساخرًا من عبء رسالتها فيخف الحمل الثقيل من أجل الإنتقال إلى حمل أثقل، في صحراء الإيقاع الذي لا يتوتَّر إلاّ لينسجم بين السياسي والأدبي. لا، لن تستطيع العودة إلى الوراء لإجراء التعديل المبتغى على مصيرك. تلك كانت حسرتك الأخيرة، أن تتخلى عن السياسة منذ البداية لتكون أديبًا منذ البداية. فأنت من أنت إبن شرطك التاريخي وابن ذاتك. وليس من شيم هذه البلاد أن ترحم أبناءها ليكونوا عاديين كسائر البشر. وليس من شيمها أيضًا أن تأذن للضحية بلوم نفسها. وفيك من المساحات والأصوات، فيك من تقاطع الطرق وحوادثها، فيك من البطل والضحيّة والشاهد، فيك من الأنا والجماعة والآخر، ما كان يُــعجِــز الفرد فيك عن أن تكون الراوية، لأنك أنت، أنت الرواية المفتوحة على الجهات كلّها والمفارقات كلّها والأسئلة كلّها ما عدا سؤالاً واحدًا: هل إنتصار الإطار هو هزيمة المعنى، وهل هزيمة الأداة هي موت الفكرة؟
والآن وأنت مسجّــى على فكرتك ذات الأقانيم الثلاثة، الحرية والعدل والسلام، فإن شعبك بأسره، شعبك العربي وأشقاءه من آخر الصحراء حتى آخر البحر، وأصدقاءه الأوفياء، أصدقاءك، من قوى السلام في هذه البلاد وفي العالم، يزدادون وفاءً لفكرتك فتلك هي وصية الحُــر للحُــر، وتلك هي هوية وجودنا الإنساني المشترك على أرض المعاني الإنسانية العريقة والتعدُّدية الثقافية والدينية والقومية. أرض السلام العطشى إلى السلام.
فانهض معنا يا أبا سلام لنمضي قليلاً معك وإليك، إلى هناك، إلى حيث تريد أن تنام حارسًا دائمًا لتلفُّــت القلب إلى حيفا. واغفر لنا يا معلِّمنا ما صنعت بنا وبنفسك. إغفر لنا أننا سنعود بعد قليل إلى أنفسنا ناقصين.

في رثاء ممدوح عدوان
كما لو نودي بشاعر أن انهض
على أربعة أحرف يقوم اسمُك واسمي، لا على خمسة. لأن حرف الميم الثاني قطعة غيار قد نحتاج اليها أثناء السير على الطرق الوعرة.
……..
في عامٍ واحد وُلدنا، مع فارق طفيف في الساعات وفي الجهات. وُلدنا لنتدرّب على اللعب البريء بالكلمات. ولم نكترث للموت الذي تَدقّه النساء الجميلات، كحبة جوز، بكعوب أحذيتهن العالية.
عالياً، عالياً كان كُل شيء… عالياً كالأزرق على جبال الساحل السوري، وكما يتسلق العشب الانتهازي أسوار السلطان، تسلقنا أقواس قُزحٍ، لنكتب بألوانها أسماء ما نحب من الأشياء الصغيرة والكبيرة:
يداً تحلب ثدي الغزالة،
مجداً لزارعي الخسّ في الأحواض، شغف الإسكافي بلمس قدم الأميرة، ومصائد أخرى لجمهور مطرود من المسرح.
لم ننكسر بدويٍ هائل كما يحدث في التراجيديات الكبرى، بل كأشعة شمس على صخور مدَببة لم يُسفك عليها دم من قبل، لكنها أخذت لون النبيذ الفاسد، ولم نصرخ، هناك، لأن لا أحد، هناك، ليسمع: أو يشهد.
دلتني عليك تلك الضوضاء التي أحدثتها نملة بين الخليج والمحيط، حين نجت من المذلة، واعتلت مئذنة لتؤذن في الناس بالأمل،
ودلتك عليّ سخرية مماثلة!
ولما التقينا عرفتك من سُعالك، إذ سبق لي أن حفظته من ايقاع شعرك الأول، يُفزع القطط النائمة في أزقة دمشق العتيقة، ويبعثر رائحة الياسمين.
لم يكن لنا ماضٍ ذهبي على أهبة العودة، كما يدّعي رواد المقهى الخائفون من القبض على قرون الحاضر الهائج كالكبش، ولا غد أكيد، خلفنا، كما يدعي رواد الشعر الخالي من الملح، المتخم بفراغ المطلق.
لم نبحث إلا عن الحاضر.
ولكننا، من فرط ما أُهنّا، بشرنا بالقيامة بصوت مرتفع، أثار علينا غضب الملائكة المنذورين لصيانة اللغة الصافية من غبار الأرض، والباحثين عن الشعر الصافي في جناح بعوضة.
ودُعينا، في غرف التشريح معقمة الهواء والكلام، الى بتر المفردات كثيرة الاستعمال. وسرعان سرعان ما علاها الصدأ من قلة الاستعمال، وفي أولها: الحياة… ومشتقاتها.
لكننا آثرنا أن نخاصم الملائكة.
ممدوح، لا أطيق سماع اسمك الآن، لأنه يذكرني بما ينقصني من رغبةٍ في الضحك معك على عورة بردى المكشوفة كأسرارنا القومية. ولأنه يُذكرني بمدى حاجتي الى استراحة من الركض آناء النوم، بحثاً عن حلم مسروق، أراه واضحاً وأحاور السارق. ويذكرني اسمك بما أنا فيه من طقطقة كأني حبّة بلوط في موقد الفقير ليلة العيد.
لهذا، اكتب اسمك ولا ألفظه، ففي الكتابة يتموج اسمك على ماء الحضور. وفي الكلام أسمع وحش الغياب يطاردني من حرف الى حرف، ليفترس الشلو الأخير من قلبي الجائع الى هجائك المادح.
ممدوح! ماذا فعلت بك وبنا؟ فلم نعد نحزن من تساقط شعرك المبلل بالزيت، فإنك تستعيده الآن من عشب الأرض. ولكن، في أية ريح أخفيت عنا سعالك، فلم يعد في غيابك متسع لغياب آخر.
لا لأن حروف اسمك هي حروف اسمي، لا أتبين من منا هو الغائب، بل لأن الحياة التي آلفت بين ثعلبين ماكرين لم تمنحنا الوقت الكافي لنقول لها كم أحببناها، وكم أحببنا فجورها وتقواها… فتركت ثعلباً منا بلا صاحب.
لا جلجامش ولا انكيدو. ولا الخلود هو المبتغى ولا قوة الثور. فنحن الخفيفان الهشان، كواقعنا هذا، لم نطلب أكثر من وقت اضافي لنلعب بالكلمات لعباً غير بريء، هذه المرة، أو لنورث ما لم نقله بعد من لم يقل بعد. ولنجعل من الشعر مزاحاً مستحباً مع العدم. لكن حرف الميم الثاني في اسمك واسمي ظلَّ قطعة غيار لا تنفع.
ممدوح! هذا هو وقت الزفاف الفاحش بين الرعد والصحراء، شرق الشمال، لإنجاب الكمأ اعجازي التكوين. صف لي ولادة الكمأة أصف لك عجزي عن وصف القصيدة، فانظر شرق الشمال!
هي حسرة التعريف، أنين الرمل على الشاطئ حيث يرفع القمر، بأصابعه الفضية، سروال البحر وقت الجزر، ويرش علينا قصيدة حب، إباحية التصوف.
فاغضض من صوتك، لا من بصرك، وانظر. فمنذ ولادة اللغز الكوني، والشعر مختبئ في أشد المواقع انكشافاً. ويظهر جلياً جلياً في اللامرئي من سماء مسقوفة بكفاءة الغيب.
كل الأزهار شريفة حيث تترك لحالها، ما عدا القرنفلات الحمر التي يضعها الجنرالات، ما بين وسامٍ ونجمة، على بزة سوداء أو كحلية… لخداع أرامل الشهداء.
وكل اليمامات نظيفة، حتى لو بالت على شرفاتنا والوسائد، ما عدا اليمامات التي يدربها الغزاة والطغاة معاً، وعلى حدة، على الطيران الرسمي في أعياد ميلادهم، وفي مناسبات وطنية أقل أهمية.
الآن، لا أتذكر شيئاً منك. فالذكرى تلي الحرب والموت والزلزال. وأنت، ما زلت معي تكتب هذه المرثية، على هذه الورقة البيضاء، في هذا الليل البارد… أو نكتبها معاً لشاعر محبط. فلعلها لا تعجبه فيتوقف عن اغتيال نفسه، الى أن يقوم غيرنا بكتابة مرثية أفضل، لا تعجبه هي أيضاً، فينتظر غيرها ويحيا أكثر.
كما لو نُودي بشاعرٍ أن انهض من هذا الألم.
وأنسى الآن، لتبقى معي، أكثر من غلسٍ لم يدركنا ولم ندركه قبل أن تُفرغ آخر كرم عنبٍ مقطر في كأسك التي لا تخلو أبداً إلا لتنكسر، أيها العاصر الماهر!
ليس هذا مجازاً، بل هو أسلوب ليلٍ لا يصلح إلا ضيفاً، وأنت المضيف الباذخ. وإن افتأت عليك، كصديقٍ حامض القلب، عاملته بالحسنى وأرقت عليه حليب الفجر.
لكني لا أنسى ضحكتك التي تشبه شجرة زنزلخت مبحوحة الأغصان، عاليةً وعريضة، لا تاريخ لها منذ صار التاريخ قهقهة عابثة. ومنذ عادت الجرار الى حفظ الصدى، كالزيت، خوفاً عليه من آثار الشمس الجانبية.
كم حيَّرني فيك انشقاق طاقاتك الإبداعية عن مسار التخصص، كعازفٍ يحتار في أية آلة موسيقية يتلألأ. لم أقل لك ان واحداً منك يكفي لتكون عشيرة نحل تمنح العسل السوري مذاق المتعة الحارق. بحثت عن الفريد في الكثير، من دون أن تعلم أن الفريد هو أنت. وأنت أمامك بين يديك. ألا ترى اليك، أم وجدت نفسك أصفى في تعددها، يا صديقي المفرط في التشظي ككوكبٍ يتكون.
فصصت الثوم للقصيدة لتحمي شرايينها من التصلب. فالشعر، كالجسد، في حاجة هو أيضاً الى عناية طبية، والى فصادٍ كلما أُصيب الدم بالتلوث. آه، من التلوث الذي جعل الإيقاع نشازاً، واستبدل حفيف الشجر بموسيقى الحجر، واعتبر الحياة عبئاً على الاستعارة!
لكن هذا لم يهمك. لأن الحياة لا تُوهب لتعرف أو تعرض للنقاش، بل لتُعاش… وتعاش بكاملها، وتُلتهم كقطعة حلوى إلهية، أو شفتين ناضجتي الكرز. وقد عشتها كما شئت أنت، لا كما هي شاءت. أحببتها فأحبتك. وشاكست ما يجعلها أحد أسماء الموت، في عصر القتل المعولم الذي يمنح القتلى قسطاً من الحياة لا لشيء… الا لينجبوا قتلى.
يا ابن الحياة الحر، أيها المدافع عن جمال الوردة العفوي، وحرية العشاق في العناق على مرأى من كهان الطهارة اللوطيين! من بعدك سيسخر ممن يتقنون تسمية الآلهة، ولا يقوون على تسمية الضحايا؟ يأنفون من الانتباه الى دم مسفوك على طريق المعراج، ويسرفون في التحديق الى غيمة عابرة في سماء طروادة، لأن الدم قد يلطخ نقاء الحداثة المتخيلة، ولأن الغيم سرمدي الدلالات. لعلهم على حق، ما دامت هزائمنا تستدعي تطوير النقد الى هذا الحد!
لكن هذا أيضاً لا يهمك، أيها المتعالي على التعالي، أيها العالي من فرط ما انحنيت بانضباط جنديٍ أمام سنبلة، ونظرت، حزيناً غاضباً، الى أحذية الفقراء المثقوبة، فانحزت الى طريقها الممتلئ بغبار الشرف. الشرف؟ يسألك المترجم: ما معنى هذه الكلمة؟ فلم أجدها في الطبعات الجديدة من المعاجم.
ممدوح، يا صديقي، لماذا كما يفعل الطرخون خانك وخاننا قلبك؟ لماذا لم تعلم كم نحبك؟ لماذا تمضي وتتركني ناقصاً؟ لماذا… لماذا؟
ألقى الشاعر محمود درويش هذا النص في أربعين الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان

في اربعين محمد الماغوط
في أمسية غياب كهذه، وفي المكان هذا، كنا في العام الماضي ننثر ورد الحب علي اسم الراحل ممدوح عدوان. لم يحضر محمد الماغوط كاملا، لعجز عكازه عن اسناد جبل. لكنه حضر صورة شاحبة وصوتا متهدجا ليذكٌرنا بأن للوداع بقية.ذهبنا اليه في صباح اليوم التالي. كانت العاصفة مسترخية علي أريكة، تشرب وتضحك وتدخن وتعانق زوارها. كانت العاصفة مرحة فرحة بما تبقي فيها من هواء وضيوف، ولا تأسف علي ما فعلت باللغة وبالنظام الشعري. فهي لا تعرٌّف الا من آثارها عندما تهدأ. هدأ الماغوط ونظر الي آثاره برضا الفاتح المرهق. قلنا له وقال لنا ما يقول العارفون بأن اللقاء وداع. وضحكنا كثيرا لنخفي خوفا أثاره فينا انكبابه علي ترتيب الموعد القاسي مع سلامه الداخلي، فمثل هذا المحارب لا تليق به السكينة.لكنه لم يكن حزينا ولا خائفا مما يتربص به. وضّع الماضي كله علي المائدة، ووزع علي كل واحد منا حصته من الذكريات والمودة، قرأ لنا ما يدون من خواطر يومية عاجلة، فهو في سباق مع معلوم يشاغله بالطرق علي فولاذ المجهول. وحياني بقصيدة، فخجلت، وقلت في نفسي: لماذا لم يصدٌِقني من قبل؟وهو، الذي لا يحب الإعلام، ابتهج بوصول فريق اذاعي، ربما ليعلن وصيته الأخيرة علي الملأ: أوصيكم بالحب… فهذا الغاضب من كل شيء لم يغضب إلا لأن الحب في هذا العالم قد نضب. ولم يغضب الا لأن زنزانة هذا العالم ما زالت تتسع لسجين رأي مختلف. ولأن أرصفة هذا العالم ما زالت تزدحم بالفقراء والمشردين. ولم يغضب إلا لأن لفظة الحرية، بمعناها الشخصي والعام، ما زالت مستعصية علي العرب والعاربة والمستعربة… والإعراب!فوجئنا بصحافي يسألنا بلا رحمة: هل جئتم الي الماغوط لحضور جنازة مبكرة؟ تحسس كل واحد منا قلبه وتلعثم، الا هو، هو النسر الوحيد في ذروته، ملتفا بكبرياء الأعالي وبمصاهرة البعيد. لم يكن سؤال الموت سؤاله ما دام يكتب… ففي كل كتابة ابداعية نصر صغير علي الموت، وهزيمة صغري أمام إغواء الحياة التي تقول للشاعر: هذا لا يكفي، فما زالت القصيدة ناقصة! وكنا نعلم اننا جئنا للقائه لنتدرب علي وداعه.رحل الماغوط، ونقص الشعر. لكنه لم يأخذ شعره معه كما فعل الكثيرون من مجايليه الذين صانوا سلطتهم الشعرية في حياتهم بحرٌاس النقد والأحزاب. فهذا الوحيد الخالي من أية حراسة نظرية وتنظيم إعلامي، لم يراهن الا علي شعريته وحريته، وعلي قارئه المجهول الذي وجد في قصيدته صدي صوته وملامح صورته، بعدما أقامت كلماته المكتوبة بالجمر جسر اللقاء بين الذات والموضوع، وبين الذات وما تزدحم به من آخرين.وهو، هو الذي جاء من الهامش واختار هامش الصعلوك، كان نجما دون أن يدري ويريد. فالنجومية هي ما يحيط بالاسم من فضائح. وشعره هو فضيحتنا العامة، فضيحة الزمن العربي الذي يهرب منه الحاضر كحفنة رمل في قبضة يد ترتجف خوفا من الحاكم ومن التاريخ. حاضر يقضمه ماض لا يمضي وغد لا يصل. كم أخشي القول ان الزمن الذي هجاه الماغوط ربما كان أفضل من الزمن الذي ودٌعه. فقد كنا ذاهبين، علي الأقل، الي موعد مرجأ مع أمل مخترع. لا بأس من أن يكون ماضينا أفضل من حاضرنا. ولكن الشقاء الكامل هو أن يكون حاضرنا أفضل من غدنا. يا لهاويتنا كم هي واسعة!رأي الماغوط الهاوية فخاف. خاف بشجاعة المقاوم. فنظر الي الأفق بعيون الشاعر الطائر، فخاف ثانية، وقاوم الخوف برؤيا الشاعر الحالم، فماذا علي الشاعر أن يفعل غير أن يخلص مرتين: مرة لانتمائه الي الواقع، ومرة لتجاوز الواقع بالخيال وبصناعة الجمال؟لكن هذا الخائف علي عفوية الحياة، وعلي العلاقة السرية بين الأشياء والكلمات، رأي الخوف كما تجري المواد الأولية لبناء الكابوس، فقاومه بحرية الكلمات في تحرير صاحبها وقارئها، وقاومه بالتخلي عن حنين اللغة الي ماضي أطلالها وقصورها معا، وبفروسية من لا يملك شيئا ليخسره، وأكاد أقول: بمغامرة يأسه اشتق الأمل لغيره، فأخاف ما يخيفه، كما تجخيف الملحمة الشعرية الموت المتربص بأبطالها وقرائها الخالدين. لقد أخافت لغة الماغوط الساخنة الساخرة الجميع من فرط قوة الهشاشة في أعشابها، ومن فرط دفاعها عن حق الوردة في حماية خصائصها.وهو فضيحة شعرنا. فعندما كانت الريادة الشعرية العربية تخوض معركتها حول الوزن، وتقطعه الي وحدات ايقاعية تقليدية المرجعية، وتبحث عن موقع جديد لقيلولة القافية: في آخر السطر أم في أوله… في منتصف المقطع أم في مقعد علي الرصيف، وتستنجد بالأساطير وتحار بين التصوير والتعبير، كان محمد الماغوط يعثر علي الشعر في مكان آخر. كان يتشظي ويجمع الشظايا بأصابع محترقة، ويسوق الأضداد الي لقاءات متوترة. كان يدرك العالم بحواسه، ويصغي الي حواسه وهي تملي علي لغته عفويتها المحنكة فتقول المدهش والمفاجئ. كانت حسيته المرهفة هي دليله الي معرفة الشعر… هذا الحدث الغامض الذي لا نعرف كيف يحدث ومتي.انقضٌّ علي المشهد الشعري بحياء عذراء وقوة طاغية، بلا نظرية وبلا وزن وقافية. جاء بنص ساخن ومختلف لا يسميه نثرا ولا شعرا، فشهق الجميع: هذا شعر. لأن قوة الشعرية فيه وغرائبية الصور المشعة فيه، وعناق الخاص والعام فيه، وفرادة الهامشي فيه، وخلوه من تقاليد النظم المتأصلة فينا، قد أرغمنا علي اعادة النظر في مفهوم الشعر الذي لا يستقر علي حال، لأن جدة الإبداع تدفع النظرية الي الشك بيقينها الجام


حوار معه

يشبه نفسه بشكل مدهش: في الحياة كما في القصيدة. تسأله عن ذاته فيحيلك إلى الجماعة. تضعه في مواجهة الجماهير، فيستلّ ذاتيّته جسراً أكيداً للتواصل، خارج راهنيّة القصيدة التي «تعاند الزمن»…
محمود درويش الذي يدعو معاصريه إلى التغلّب على هوس الشاعر الأول، أو الشاعر الأوحد، خصّ «الأخبار» بحديث مسهب في شؤون القصيدة وشجون صاحبها الواقف «في حضرة الغياب»
«يا أهل لبنان الوداعا» هذا ما قاله محمود درويش، قبل 25 سنة، في قصيدته الشهيرة «مديح الظل العالي». لكنه عاد أكثر من مرة إلى بيروت ليلتقي جمهوره وأصدقاءه. سلك طرقاً مختلفة وغيّر وجهة سير قصيدته أكثر من مرة. انخفض الصوت العالي في نبرته. تخفّف شعره من حمولات رمزية ونضالية مباشرة. صاحب «أحمد العربي» و«جواز سفر» صار يكتب «بقايا كلام على مقعدين» و«ورد أقل». «الأخبار» التقت درويش بعد الأمسية التي أحياها في «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» قبل أسبوعين
* تقديمك في الأمسيات الشعريّة قد يخلق بعد التشوّش لدى الجمهور… ما يلزمك بمهمّة رفع سوء التفاهم
يفترض بالمقدم أن يمهّد للعلاقة الحميمة التي سيخلقها الشاعر مع جمهوره. بعض المقدّمين ينجح في هذا، وأحياناً أشعر بأنه قال كلاماً مهماً في شعري. لكن ما يسيء إليّ هو أن يحدد المقدم صورة مسبقة، أو قراءة نمطية للشاعر. أقدم أحياناً كشاعر قضية، وأنا أقوم بقراءة شعر مخالف لهذه الصورة. أعتقد أن الجمهور لم يعد يكترث بالمقدمات. بوسع الشاعر بسرعة أن يزيل سوء التفاهم الذي قد تخلقه المداخلات السابقة لاعتلاء المنبر. لكنني ممتن دائماً لمن يقدمني، سواء أفرط في
التأويل السياسي أو أفرط في التأويل الجمالي، وفي اعتقاده أنه يحسن فعلا .
* يتعامل معك كثيرون كشخصية اعتبارية، لا كشاعر أو كإنسان عادي… هل تعاني من هذا الأمر ؟
نعم، أعترف بذلك. غالباً ما أُقَدَّم محاطاً بعوامل تاريخية وخارجية وسياسية مرهقة. كأني ممثل أخلاقي أو سياسي لقضية اتفقنا على تسميتها بالمقدسة. هنا الشاعر الذي في داخلي يشعر بالقلق. فأنا ليس لدي أجوبة ولا أحمل مشروعاً سياسياً، ولا أنطق ــــ شعرياً على الأقل ــــ باسم جماعة، وإن كان هذا المستوى موجوداً في الخلفية الشعريّة. لذا أحاول التخفيف من ضغط تلك الحمولة الرمزية: لا بدّ من تناول شعري بشروطه الجمالية العامة، لا بخصوصية انتماء صاحبه. أطالب بأن أعامل كشاعر لا كمواطن فلسطيني يكتب الشعر. تعبت من القول إن الهويّة الفلسطينية ليست مهنة. قد يتكلم الشعر عن قضايا كبرى، لكن علينا أن نحاكمه بخصائصه الشعرية، وليس بالموضوع الذي يتكلم عنه. الشعر يُعرّف جمالياً لا بمضمونه، وإذا تطابق الاثنان فإن ذلك جيد.
* في أعمالك الجديدة نلحظ خفوتاً في النبرة. كأن القصيدة مكتوبة بحميمية ولأشخاص قليلين. هل تحس بأن تلك النبرة لم تعد مناسبة لجمهور كبير؟
أبداً، لأن هؤلاء الآلاف مكونون من ذوات صغيرة. ليس من حقنا أن نعامل الجالسين في القاعة على أنهم كتلة مجرّدة من الخصائص الفردية. عندما أكتب عن ذاتي، أحس بقدرة مخاطبة أقوى مما لو كنت ألقي قصيدة حماسية أفترض فيها أن الكل يجتمع في واحد. عندما أكشف ذاتي الشعرية، أشعر براحة أكبر، وأحس بأني أقترب أكثر من مفهوم الشعر، وأقترب أكثر من مزاجي الشخصي أمام هؤلاء الآلاف، كل على حدة، ومجتمعين معاً. أعتقد أن الشاعر هو الذي يضبط إيقاع القاعة. أنا لا أذهب إلى هموم شخصية أو تفاصيل لا تعني الآخرين. تبدو القصيدة مجرد لعبة تقوم على تقشف بلاغي ماكر، لكن هناك دائماً معنى متخفٍّ وراء هذا اللعب. ما يبدو أحياناً مجانياً في النص ليس كذلك. العلاقات بين عناصر القصيدة محكومة بذكاء الشاعر في البحث عن معنى للوجود والحياة.
* هل عطّل حضورك الاعتباري أي قراءة نقديّة لشعرك؟
بصراحة، أنا أشكو من الإفراط في التأويل السياسي لشعري، على حساب الانتباه إلى المسألة الجمالية التي ينبغي للنقد أن ينشغل بها أكثر من خطاب القصيدة. لا يغضبني ناقد يشير إلى عناصر سلبية في شعري، بقدر ما يغضبني غضّ الطرف عما ينبغي أن يُقرأ في شعري: ماذا أضاف؟ وما هي مكانته في الشعر العربي الحديث؟ وغيرها من الأسئلة التي أرجو أن يساعدني النقد على معرفة نفسي من خلالها. أشكو أيضاً من تصنيفي وطنياً لا شعرياً. إذا كنت «شاعراً فلسطينياً»، فإنك لا تكتب سوى موضوع واحد هو فلسطين، ونصك مقروء مسبقاً حتى قبل أن تكتبه. لا يطلب الناقد شيئاً محدداً من الشاعر السوري أو العراقي أو المصري، أما عندما يصل إلى الشاعر الفلسطيني فيقرر ما ينبغي عليه أن يكتبه
* حين قدّمك أدونيس في فرانكفورت، قلت إنها المرة الأولى التي تسمع فيها رأيه في شعرك… أليس هذا غريباً؟
أدونيس وأنا قضينا سنوات طويلة معاً. وكانت صداقتنا يومية، ولياقة كل واحد منا كانت تمنعه من إبداء رأيه في الآخر، وهو رأي إيجابي على أي حال. عندما قدمني أمام جمهور ألماني، حيّاني، فرددت له التحية. لكن بشكل عام هناك حزبية في الحياة الشعريّة العربية. يعني إذا كنت تحب نتاج شاعر معين، فعليك أن ترفض نتاج شاعر آخر! أنا لا أحب الشعر الذي يشبه شعري. هناك شعراء يشجعون من يقلدهم ويؤسسون أحزاباً. أعتقد أن المسألة أخلاقية، وتتعلق بقدرة كل واحد منا على الاعتراف بحرية الاختيار، وتعدد الخيارات الموجودة. علينا أن نتخلص من مفهوم الشاعر الأول، أو الشاعر الأوحد. ويجب أن نفعل ذلك في السياسة أيضاً. لا يستطيع طائر واحد أن يحتكر السماء. المشهد الشعري العربي يتسع للتعدد والتجاور والتعايش. هذا ما يصنع تنوعه وغناه. من العبث فرض تيار شعري. لكن العلاقات بين الشعراء العرب ليست صحية للأسف. النميمة أصبحت سمة الثقافة السائدة.
* هل تحس بأن الجملة التي بدأت بها لم تتغير في الجوهر، وأن مكونها الإيقاعي أو الوجداني واللغوي بقي على حاله؟
هذا سؤال صعب. على الشاعر أن يراقب نفسه. أن يكون حذراً من هيمنة مفردات وجمل على تجربته الشعرية. عليه أن ينظف، إذا جاز التعبير، نصه الشعري من تكرار نمطي لا يشكل بالضرورة ملامح قوية في شعره. في لاوعيه اللغوي والبلاغي والاستعاري، قد تكون تسيطر جملة إيقاعية على مسيرة الشاعر. عندما ألاحظ أن هذه الجملة موجودة، أجري عليها تعديلات أو ألغيها. لكن قد لا ألاحظ ذلك، فتبقى تلك الجملة ملازمة لي .
* جملة الشاعر الأولى بمثابة جلد له. وهذا البيان الشخصي يبقى، مهما طرأ على نصّه من تطورات وانعطافات…
إذا نظرنا من هذه الزاوية، هذه ملامح لا تُحذف ولا يجب أن تُحذف. هذا وجهك الشعري أو بصمتك، ومن المستحيل أن تغير سمات البصمة. أعتقد أن الشاعر الذي تُعرف قصيدته من دون أن يوقعها يكون قد كوّن ملامح هوية شعرية خاصة، من دون أن يكرر نفسه. أتحدث هنا عن نَفَس الشاعر وإيقاعه. لكنني لا أعرف إذا كان أمراً جيداً أن يتعرف القارئ إلى قصيدة من دون أن يعرف اسم كاتبها، لكن عكس ذلك يقودنا إلى استخدام أقنعة. أنا أفضل وجهي على القناع، لكن هذا الوجه، أو هذه الأنا، تجري عليها تحولات دائمة من دون أن تصبح عكس ما هي
* قلت مرة إنك تحاول كتابة قصيدة نثر بالوزن. هل تظن أن الفرق بين القصيدتين هو الإيقاع والوزن فقط؟ هل كتابة قصيدة نثر ممكنة بمواد ومكونات إيقاعية؟
الشعر طبعاً يصعب تعريفه. لكن هناك ثوابت في تعريفه مثل الإيقاع. الإيقاع ليس الوزن، بل هو طريقة تنفس الشاعر وموسيقاه الداخلية. الإيقاع ليس حكراً على الوزن. وقد يتأتى من العلاقات بين الحروف والكلمات والدلالات حتى في نص نثري. لذلك لا نستطيع كتابة قصيدة نثر موزونة. خلافي ليس مع قصيدة النثر التي أحبها كثيراً، خلافي هو مع الادعاءات النظرية التي تقول إنه لا شعر ولا حداثة خارج قصيدة النثر. يُقال إن قصيدة النثر مشغولة بالتفصيلي والهامشي واليومي. هذا لا يكفي لتعريف قصيدة النثر، لأن هذا قد يُكتب إيقاعياً وبالوزن التقليدي أيضاً. هذا ما قصدته حين قلت إني أستطيع أن أستوعب خطاب قصيدة النثر في قصيدتي الموزونة. وبالمناسبة هناك سوء فهم لموقفي من قصيدة النثر. أنا من أكثر المعجبين بها، وإن كنت أختلف على المصطلح. أنا أفضِّل أن أقول «القصيدة النثرية» كما أرفض مصطلح «قصيدة التفعيلة» وأفضل عليه تسمية «القصيدة الحرة». للأسف تكرست هذه المصطلحات. تعريف الشعر بات أكثر صعوبة اليوم. فالشعر قد يتسع للسردي والنثري والموسيقي. بعض الشعراء وجد كتابي الأخير «في حضرة الغياب» قصيدة نثر طويلة. هذا يفرحني
* ردّدت مراراً أنك تتمنّى حذف جزء كبير من قصائدك القديمة. ماذا يمكن أن تقول عن أعمالك الحالية بعد عشرين سنة؟ أين منطقة الرضا إذاً؟
هناك شيء واضح بالنسبة إليّ، وهو أني لن أبلغ منطقة الرضا. أنا شديد التطلب وملول من المنجز. وأشعر، صادقاً، بأني لم أصل إلى حدود ما يسمى الشعر الصافي. الشعر الصافي مستحيل، لكن علينا أن نغذي أنفسنا بوهم وجوده. الشعر الصافي متحرر من تاريخيته ومن ضغط الراهن، أي إنه يعاند الزمن. لكنّنا ما زلنا نقرأ، بكامل المتعة، الكثير من الشعر العظيم الذي كُتب في لحظة زمنية عن واقع معين. التاريخ والواقع ليسا، على ما أظن، عبئاً على صفاء الشعر الذي يأتي من طين الحياة، لا من أزهار الفل. الشعر الجيّد يعيش خارج شروطه الزمنية. حين نقرأ هوميروس هل نقرأه في حرب محددة وزمن محدد؟
*… في نصوصك الأخيرة هناك حضور شديد للموت والغياب
أنا أتقدم في السن. لكن من حقي أن أقول إن الحديث عن التقدم في السن يتم بلغة فتية. هناك شعرية فتية في اقترابي من الموت. أليس كذلك؟
*. أظن أن جزءاً من عافيتك الشعرية يعود إلى تحديك المتواصل لنبرتك وعبارتك
أي شاعر يجلس إلى نفسه، ولا يشعر أنه تافه… لن يكتب شعراً مهمّاً. أن تحس بأنك لم تكتب شيئاً ولم تحقق شيئاً هو الحافز الدائم للكتابة. هذه هي ورطة الشعر. أنا أشعر بأني لم أكتب شيئاً. أحاول أن أصحّح ما فعله الزمن بي، وما لم أفعله في الشعر.
… تقول «في بيت ريتسوس»: «ما الشعر في آخر الأمر؟». أريد أن أعرف الجواب منك
الجواب كما جاء في القصيدة ذاتها: «هو الحدث الغامض الذي يجعل الشيء طيفاً / ويجعل الطيف شيئاً / ولكنه قد يفسّر حاجتنا لاقتسام الجمال العمومي». ريتسوس قال «الحدث الغامض»، الباقي من تأليفي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق